مذكرات عائلة مقاومة حذفت تاء تأنيثها (بقلم: زكية لعروسي)

بقلم: زكية لعروسي

 

كلما تحدثت إلى صديقي عبد اللطيف الدرقاوي -أجمل الرحمات عليه- هاتفيًا، والذي كانت تجمعنا اغترابية نفسية وروحية وفكرية بين ذواتنا والمجتمع، وكذلك الحنين إلى أصولنا المشيشية، يذكرني بأصولي ويحدثني عن تاريخ المقاومة، ويسألني عن مسيرة والدي وعائلتي المقاومة بالمنطقة الشرقية، وهجرة أجدادي بنو عروس إلى الجزائر للاستقرار بعد ذلك بمدينة بركان من أجل تدريس الفقه وعلوم اللغة والنحو، وممارسة القضاء ونظم الشعر.

كل هذه الأسئلة كانت تزيد من اغترابي، ووعيي بقيود جهالتي وجهلي لقضايا تخص تاريخي وتمس وطنية عائلتي. إنه إحساس بضعف وعجز وإحباط يتنافى مع شخصيتي الثائرة وفكري الذي يستمد ثقافته ووطنيته من شريعة الآباء والأجداد.

باتت كلمات المناضل عبد اللطيف الدرقاوي تتخلل دواخلي، ولها صدى في أذني حتى بعد وفاته في يوم 11 من شهر نوفمبر 2023. إنه الرجل الذي عرفته وطنياً حتى النخاع، وواعياً بدور الزوايا في النضال والصد للاستعمار بحكم أنه نبت الزاوية الدرقاوية وحفيد مولاي العربي الدرقاوي. زاوية راهنت على مفهوم الجهاد، والاعتزاز بالإسلام والموت من أجل حماية الوطن. تمددت حتى جنوب شرق المغرب، في ظرفية صعبة وعسيرة اتسمت بالتحولات الدولية التي أثرت بشكل واضح على المغرب، والذي بدأ يخضع لضغوط استعمارية ودسائس خطيرة كانت تحاك ضده بهدف السيطرة عليه. قام سيدي محمد بلعربي الدرقاوي بدق ناقوس الخطر، داعياً إلى الجهاد ومحاربة النصارى، ومقاطعة البضائع الأجنبية بعدما لاحظ أن الفرنسيين يتخذون من التجارة سبيلاً للتغلغل في الأراضي المغربية والسيطرة عليها. فأصدر في هذا الشأن عدداً من الفتاوى يحرم فيها هذا التعامل، ويحظر فيها هذه التجارة، حاثاً جميع القبائل في البوادي والحواضر على عدم تمكين العدو من ذلك.

إن الفضل فيما أكتب اليوم يعود إلى شخصية الدرقاوي المركبة المزاج والصفات، فقد كان زاهداً متواضعاً وماركسياً في نفس الوقت، متمرداً يعتز بوطنه أيما اعتزاز. فتى جعلته الهجرة، كأي مثقف، يعيش في صراع داخلي بسبب أمور كثيرة ذاتية وعائلية واجتماعية وتاريخية وثقافية، وحولته إلى مغترب معذب، متأصل في الحياة والأدب. كان مدرسة ثقافية قائمة بذاتها، تكسر العصبية وجهالة الشقاء المتسلط على كل من تحدث إليه.

ما زالت كلماته حاضرة في مسامعي، وهو يخاطبني بوعي ممزوج بالسخرية:

“لا أعترف بك كعروسية ولا بنت خيرة ولا حفيدة مولاي عبد السلام، أيتها المثقفة الجاهلة بتاريخ أسرتك ومقاومة أبيها وأسرتها المعروفة بالمقاومة والتصوف والعلم والورع… ماذا تنتظرين لتدوين مذكرات مقاومة سي عبد الرحيم؟ لما هذا الجهل بتاريخ المقاومة وأنت تعيشين في أحضانها؟!!! كيف لمثقفة مثلك أن تتنكر لتاريخ عائلتها المشرف؟ هذا من العجب… لا أفهم شيئاً.”

كان لهذه الكلمات وقعها في نفسي، مما زاد من اغترابي وخجلي لعدم اكتراثي بتاريخ أسرتي المجيد في المقاومة. لطالما حاول أبي العروسي عبد الرحيم تحسيسنا، أنا وإخوتي، لهذا الجانب، وهو يحكي لنا بأدق التفاصيل الزمكانية الممكنة عن مسيرة المقاومة بالمنطقة الشرقية، وكيف خرجت، وترعرعت نبتتها في بيوتهم. لنغرق أمامه في لجة الصمت أو في ضحك أبله، أو نسقط في ظلام التجاهل، مصدره أنانية الشباب وانفصالهم عن تاريخ كان يرهقنا سماعه والحكي عنه.

كان ملجئي الأول كتاب خالي الأستاذ المتنور لوكوتي بن عبد الله (1923-2011) من خلال كتابه “تاريخ بني يزناسن”، لتصيبني الصاعقة أمام فتات كلمات ذكر فيها اسم لعروسي. فقد اكتفى خالي بقوله إنه تتلمذ على يد علي لعروسي جدي من أبي:

“ولد الأستاذ بنعبد الله الوكوتي في 19 يوليو 1923م بوكوت. حفظ القرآن الكريم في وقت مبكر، ودرس الفقه ومبادئ اللغة العربية في المسجد العتيق ببركان، على يد الفقيهين السنوسي والقاضي علي لعروسي.”

فماذا عن لعروسيين وتاريخ مقاومتهم وتفانيهم والعمليات الفدائية التي نفذت ضد الاستعمار؟ لم أجد مساحات تتحدث عنهم، لتتجهم روحي وتغرقني فلسفة عابسة ورافضة لهذا الظلم الذي اعتبره نوعاً من الأنانية. اقتنعت بضرورة التشمير على أطراف الذاكرة، والبحث في “القجورة ديال التاريخ المسجل شفاهياً” من خلال ما اختزلته ذاكرتي من حكي والدي لعروسي عبد الرحيم وعمي عبد الباقي ووالدتي الطاووس وخيرة، وبعض ما دونه من الروايات الشفاهية أحد أبناء عمومتي لعروسي محسن عن حياة أجدادي ونزوحهم إلى المنطقة الشرقية… يتبع.