مذكرات عائلة مقاومة حذفت تاء تأنيثها (الحلقة التاسعة)

بقلم: زكية لعروسي

بعد هجرة الوالد مولاي عبد الرحيم إلى الناضور، وبالضبط إلى ما يسمى ب” المنطقة” التي كانت محسوبة على إسبانيا. بدأت الاعتقالات تعم أفراد “عائلة حذفت تاء تأنيثها” بما فيهم نساؤها من زوجات المقاومين وامهاتهم…رجال صدقوا ما عاهدوا عليه الآباء والاجداد، والوطن، وما تبدلوا تبديلا …كان هدفهم تحرير الوطن بالفعل والقول..وهنا يحضرنا ماكان يرويه الوالد مولاي عبد الرحيم – أجمل الرحمات على روحه- باستمرار عن أحد المقاومين المسمى موسى برياح- رحمه الله- والذي كان امينا عاما لجماعة حزب الاستقلال ب”مداغ”، وقد كان أمِيًّا يشتغل مع المعمر، و في 11 يناير من سنة 1944, كتب برقية في إطار المطالبة بالاستقلال-كباقي ممثلي الأحزاب الأخرى على الصعيد الوطني- لممثل الروس في مجلس الأمن، ولما بلغ هذا الامر إلى المستعمر، بدأ ضباطه يستدعون جميع ممثلي الأحزاب لاستنطاقهم، فكان المقاوم موسى برياح من بينهم، إذ استدعاه حاكم بركان آنذاك يدعى “روبيلي”، فسأله إذا ما كان قد قام هو كذلك بإرسال برقية للمطالبة بالاستقلال، ليجيبه السيد برياح بنعم،

الحاكم الفرنسي “روبيلي”:

” كيف لك ان تفعل هذا وانت امي لا تقرا ولا تكتب، وتشتغل عند المعمر الفرنسي.. ما لك والروس.. لن تنال منهم شيئا… فلماذا قمت بهذا؟”

المقاوم موسى برياح:

“قمت بهذا لانه واجبي الوطني.. والوطنية لا تحتاج أيها القارئ إلى أن نقرأ ونكتب.. هي في عروقنا وننشأ عليها منذ الصغر في بيوتنا وحين نرضع من اثداء امهاتنا…”

الحاكم الفرنسي “روبيلي:

” ولكن اجبني عن سؤالي.. لماذا فعلت هذا أيها الخائن”

المقاوم موسى برياح:

“ما تسميه خيانة أيها الحاكم هي حسب مفهومك ومنظورك الاستعماري الذي سلب الأراضي لأصحابها، وشرد العائلات وبغا يلون التربة ديالنا ويْخَوْنْ تراثنا.. أما بالنسبة لي فهي الوطنية التي رضعتها من ثدي امي وسقتني بها وانا في الرحم”

الحاكم الفرنسي “روبيلي:

” ما تتفلسفش علي.. قل لي علاش كتبت حتى انت، وانت تعيش في الخيرات ديال الفرنسيين؟”

المقاوم موسى برياح:

“غادي نعيطك جوابك يا سيد الحاكم… الخير خير بلادي واجدادي .. كتبت البرقية باش ذاك الكرسي (المنصب) اللي انت جالس عليه يجلس عليه مغربي حر ولد بلادي..هذا هو جوابي ليك”

الحاكم الفرنسي “روبيلي” متجهما ومناديا العسكري:

هبطو الحيوان “للزريبة” بمعنى ” السيلون”.. مقامه ومكانه هناك مع الخونة خوتو”

لم يستعمل الحاكم لا كلمة سجن ولا “بريزون”، ولكن ” الزريبة، كلمة مقصودة ملغيا بطريقة وحشية وعمياء جميع شرائع الإنسانية ومفهوم الوطن.

فيا لك من أصيل شريف يا موسى برياح- اجمل الرحمات على روحك-، لقد كنت العارف المتنور والحاكم “روبيلي” هو الجاهل لنفسه ولما له، وعليه.. ها أنت يوثق أقوالك التاريخ والرواية. ولم ينسك الوالد مولاي عبد الرحيم العروسي وإخوانه الذين عرفوك.. وها انت حاضر بكلماتك القوية التي لم تدرسها بالمدارس، وإنما في اسرتك ” بغيت مغربي حر ولد بلادي يجلس على ذاك الكرسي اللي راك جالس عليه انت” عبارة يجب أن يعي عمقها، ويؤمن بها كل مغربي ومغربية.

فالوطنية ليست نظاما تعليميا بحثا، وإنما هي فطرة ننشأ عليها وتنميها الاسر دونما تعسف، والمقاومة قد تكون بالفعل والقول، ويندمج فيها المثقف والعالم، والامي لأنها إحساس قوي بالغيرة على تربة الوطن، فلا يحتاج الوطني إلى معاجم، ولا إلى مجلدات لتغذية حسه ومحاربة بدع الاستعمار.. فلِكُلٍّ لغته وحججه للإقناع ولكن الهدف واحد.. والامي له أكثر من غيره في كذا مواقف بطولية… لم يأبه السيد موسى برياح بانتفاضته اللغوية ضد الحاكم لمصير اسرته المعيشي، ولم يحاول أن يهدأ الوضع، بل بعبارة واحدة، و دون تضليل أو تمويه لخص أهداف وغايات المقاومة وجيش التحرير، وأثبت وطنيته التي ترفض كل مظاهر الوجود الاستعماري.

وترجمة واقع الوطنية والمقاومة لم يقتصر على الرجال الاحرار، إذ من الظلم ان نتحدث عن دور المقاومة النسائية بعد مقاومة الرجال لان دورهن بدأ في نفس الوقت لفطرتهن. فاحتضان المقاومين عقيدة راسخة فيهن، فدورهن بدأ في تربية الابناء على الكفاح، لينتقل إلى المشاركة الفعلية عن طريق توفير الطعام، ونقل الاخبار للمقاومين، وزغاريدهن أثناء مظاهرة 16 و 17 غشت، إلا أن كل ما وصلنا عن ذاكرة النساء في المقاومة المغربية هي أحداث من هنا وهناك، من جهة كانت مبطنة، ويطغى عليها الطابع الذكوري من طرف المؤرخين، وكأنَّ هؤلاء المقاومون من الرجال صنعوا الحدث لوحدهم وبمعزل عن الأم، والزوجة. والأخت،
ومن جهة أخرى ما استقيناه كله من ذاكرة شفهية محضة لمن عشن تلك المرحلة، ومنهن من قضين نحبهن ومنهن من تنتظرن.

فذاكرتي ما تزال مزدحمة بحكايات الام الزهرة العنبرية (زوجة والدي الاولى)، والام الطاووس ابو خالد الوكوتي (والدتي الثانية والتي لا زالت على قيد الحياة) لعل هذا يكون اجرا في إنقاد ما تبقى إنقاده من موروثنا الجماعي للمقاومة النسائية لامهات “اميات واعيات ” ترسخت فيهن روح الوطنية رغم ازدراء، وإبعاد تاريخ ذكوري لهن ولتجربتهن المعاشة بدل الانفتاح عليها وتدوينها، والرفع من قدرهن بمحاربة الظلم الذي تعرضن إليه من طرف الرجال ما صدقوا في رواياتهم…. فالسن والعجز لا يرحمان في زمن تواجه الذاكرة مخاطر النسيان بانتشار مرض ” الزايمر” بطريقة سريعة، والانقراض الذي لا يمهل أحدا…

فهدفنا من هذا التذكير انه لمن يصعب عليه الوصول إلى الارشيفات الرسمية، وللذين ما زالوا يبحثون عن هويتهم الوطنية، ولا يعرفون ماذا يمثل كل شبر من وطننا و كل حفنة رمل من صحرائنا أن يجدوا في تجربة ” عائلة مقاومة حذفت تاء تأنيثها” ما يغني رؤاهم، وما يعمق فهمهم، و في خطى نسائها ورجالها ما يساعدهم على الدود عن قضايا تمس عفر وطنهم وسيادته..

يتبع