مذكرات عائلة مقاومة حذفت تاء تأنيثها (الحلقة العاشرة والأخيرة)

بقلم: زكية لعروسي

نسعى في هذا العرض لاسترجاع الذاكرة النسوية وإلقاء الضوء على بطلتان : “الام الزهرة العنبرية”، و” الام الطاووس لوكوتي ابو خالد”، وإدماج تجربتهما في سردية المقاومة نظرا لمسيرتهما المتميزة. شخصيتان مختلفتان في طريقة مقاومةٍ حجب الرجال وجهها عن عيون التاريخ كمِثْلٍ مقاومة الآلاف من المناضلات الصنديدات اللواتي غُيبن من الرواية الرسمية للمقاومة بعد الاستقلال، واقتُصٍر بالاحتفاء بهن عبر رواية رومانسية بحتة كزوجات مقاومين، أو طاهيات أو صانعات لفطائر الخبز، رامين بذلك إنجازاتهن، ومساهمتهن الفعلية، والتعذيبات الجسدية والنفسية التي تعرضن إليها في حواشي كتب التاريخ، والسرد معتبرين ان دورهن كان محصورا في إدارة بيوتهن، والطهي. و من بعد الاستقلال اعتبرن كمواطنات من الدرجة الثانية…لا كلمة لهن ولا حول ولا قوة لممارسة اي سكل من أشكال الوطنية لأن ” الوقت غير مناسب لذلك “، فهن زوجات مقاومين فقط، والزوج هو الحاضن والآمر والناهي، ومن يملك اوراق، وقواعد اللعبة السياسية والاجتماعية.

المقاومة الأم “الزهرة العنبرية”

المرأة الرائعة “ما الزهرة العنبرية” (زوجة الأب الاولى) التي كانت معرضا حيا للمقاومة، (وأصل اجدادها من الغزوات بولاية تلمسان -التي كانت مغربية تابعة لولاية مراكش، وقد جعل منها موقعها الاستراتيجي المميز مركزا للعديد من الحضارات على مر العصور)، نعم “ما الزهرة ” كما نسميها، إمرأة ايقونة بشخصيتها، حيث اجتمعت فيها توابل الانوثة ونبض المقاومة.والإرادة والصمود..شخصية حديدية تتنفس الطيبوبة وعنبر النضال بوعي انثوي، تبلور من تداعيات الحصار الذي عاشته مدينة وجدة وبركان. وقد ساعدها على هذا إتقانها للغة الفرنسية، بحكم عملها عند احد المعمرين ونباهتها فأثرت في المشهد الكفاحي بطريقتها كزهرة للوطنية تحتك بالرجال، وهي بألف رجل في ثباتها، وقد كان لتقمُّصِها المظهرَ الاوروبي وإظهارِ تمسُّكِها بالقيم الفرنسية ونمط الحياة الفرنسية دورا مهما في مواجهتها نظرات المستعمر رغم تفحصه لها، لذا ليس غريبا ان تلعب دورا طلائعيا في تمرير السلاح للمقاومين من الناضور إلى وجدة ومن جهات أخرى وتمرير الاخبار لهم وبينهم، رغم الحصار والمراقبة من طرف “البياعة”. كانت هي من استقبلت المقاومين الذين هاجروا، تفاديا لاعتقالات كانوا في غنى عنها!، ومن بينهم زوجها آنذاك مولاي عبد الرحيم العروسي، والخال رئيس جيش التحرير لوكوتي بن عبد الله، والدكتور الخطيب وآخرون، فكانت تتكلف بالاكل وشراء اللوازم، والاسلحة، فمَنْ غيرُها كان باستطاعته أن يمرر للمقاوم التدلاوي من الناضور مجموعة الأسلحة المرسلة من طرف أعضاء جيش التحرير الموجودين ببيتها ، لتمضي للأمام بخطوات واثقة من الناضور إلى بركان حاملة “مسدسان” و”قنبلتان” داخل رغائف الخبز المعجون بيدها بعدما ساعدها على عبور نهر ملوية المُقاومَيْن قاسم العياشي وبنسعيد . تقدمت الام الزهرة العنبرية بكل قوة إلى الأمام لتخلع عنها كل ما يمكن ان يشكك فيها، وليتم تنفيذ عمليتين فدائيتين بالقنبلتين ، واحدة يوم 2 أكتوبر من سنة 1955 بسكن الجيش بتافوغالت والثانية في بني منكوش يوم 3 أكتوبر من طرف مجموعة من المقاومين منهم المأمون التدلاوي.

لتبقى كما نسميها ” ما الزهرة” من النساء اللواتي اثرن في، ولو في خلوة الصمت، اكثر من نساء مثقفات لان رصيدها كان فوق اي ثقافة، إنها المثقفة بالمواقف، والشجاعه والبطولة التي فوق كل الشبهات، وحب وطن علَنِيٍّ وتطبيقيٍ وغليظ دون انتظار مقابل، او المطالبة بمكافأة معينة، حب قد لا يدرس ولكنه منا، ومن خريطة عروقنا.

ابو خالد الوكوتي الطاووس

الطاووس المرأة الصبورة، ابنة المقاوم الوكوتي محمد بن الحسين، وابنة اخ الوكوتي السيد عمرو الوطني، واخت الوكوتي بن عبد الله، وزوجة مولاي عبد الرحيم العروسي، إمرأة رباعية النسب الوطني. فاثناء حملة الاعتقالات التي واكبت هجرة زوجها ( الذي هو والدي) جاءهم فاسق بنبإ عظيم وهو البياع والخائن “القايد العوش” (الذي هو ابن ” القايد المثقف” الذي كان يعمل عنده الجد القاضي السيد علي العروسي والد مولاي عبد الرحيم العروسي كاتبا رسميا قبل تقديم استقالته). اقتحم بيت مولاي عبد الرحيم العروسي مع أعوان الاستعمار وكتفوا عائلة بأكملها كالبهائم مدة يومين: العم عبد الباقي، والجدة المصونة “لالا رقية البكاوي”، والعمة لالا حنيفة العروسي” والوالدة ” الطاووس ابو خالد الوكوتي”، لاستنطاقم، وبعد ذلك اعتقالهم في”السيلون” مع عائلة المختاري وزوجته، وفي مكتب الاستنطاق، كما تحكي الام المصونة لالا الطاووس الوكوتي (والدتي الثانية) اقترب منها “البياع العوش” وهو يحرك قضيبا بيديه، منحنيا عليها، معتز النظرات امام الضابط الفرنسي:

ما قدكش يومين ديال التكتاف، قولي انت الزوجة ديال عبد الرحيم.. فين كاين.. امه قالت ما كا يهدرش معاهم لانه مدابز معاهم وما بقاش يجي عندهم؟

لحظات صمت برقية بنظرات كلها رعب وخوف:

” ما عرفتش اسيدي الشيخ.. ما عمرو قالي فين يمشي.. أنا غي مراتو الثانية .. كايعيش مع المرا الأولى.. وحنا ما كنعرفوهاش وما كاتجيش عندنا ”

البياع العوش:

: كيفاش هاذ الشي.. تضحكي علي .. إلا ما قالكش ليك لمن يقول للجارة ديالك.. فوقاش آخر مرة شفتيه فيها.. إنطقي؟”

الام الطاووس:

هاذي مدة ما شفتوش اسيدي من قبل المظاهرة… هاذ تقريبا أشهر.. كيمشي عند المرأة الأولى ديالو… أنا سامح في”

البياع العوش

” غادي نوريك وردلك الذاكرة…وبعدها رنين السقلات..سقلة مور سقلة”

الام الطاووس:

” لم اره منذ شهور وما جاش عندي.. والله يا سيدي”

البياع العووش

: هبطوها للزريبة… تما بلاصتهم حتى يطيبوا مزيان وغادي يملوا ويقولوا كل شيء” وانقلبت الآية فكان “البياع” هو المستعمر، بل أقسى عداء،، وأكثر تلذذا في التعذيب… رجل باع أبناء ونساء جلدته ولطخ تربة وطنه…

عذرااا… عذرااا يا وطني : انت بريء من هذا النوع من الانذال.. فصدق المتنبي حين قال: وشبه الشيء منجذب إليه … وأشبهنا بدنيانا الطّغام

فاللئيم ينجدب للئام والنذل كذلك للانذال

وقال الرومي:

كمثل البحر يرسب فيه حيّ … ولا ينفكّ تطفو فيه جيفه

“البياعة” انذال لا لون لهم ولا بصر ولا انتساب للشرف والأخلاق،

تتوالى الايام لتمكثن نساء ” عائلة مقاومة حذفت تاء تأنيثها” في “السيلون” أو كما كان يسميها الخونة ” الزريبة” بسجن النساء ببركان والذي كانت أبوابه مقفلة بالقفولة (من رواية الام الطاووس التي مازالت على قيد الحياة)

و تواصل الأم الطاووس

” وشُمْبْرَا كانت كَتْهَْز فقط 10 أشخاص لكن أبْنتِي كانوا يعاملونا بحال الحيوانات.. كيكدسو فيها 40 وحدة ولا واحد بحال الرجال بحال النسا”

لتأخذ نفسا عميقا وبنظرات شاردة راحلة إلى ذاك الزمن الرديء وهي تحاول أن تخفف من ثقل الأحداث وسلاسل ما زالت تكبلها، ولتضفي شيئا من اللون على حكيها : ” ولكن ابنتي كانت عندنا واحد المرأة عظيمة وكانت اكثر وطنية من المقاومين في الميدان وهي المقدمة الصافية اللي كانت تحرس النساء .. كانت طيبة تحن علينا وتجيبنا الماكلة وتخلينا نتكلمو على راحتنا مع سيدك عبد الباقي وسيدك عبد العالي…لو كان ما شي هي لو كان متنا..تهلات فينا”
لتتمم وكانها تتاسف بحنان:

” ما عرفتش ابنتي واش يكونوا جازاوها على ذاك التعامل ديالها مع النساء ديال عائلات ديال القاومين..”

انا:

” يكونو جازاوها بالتأكيد أَمَّا… ما يمكنش ما يعطيوها والو”

الام الطاووس متنهدة:”

.كيداك الحق اللي عطاوا لأمك الزهرة العنبرية واللي اعطاوني انا.. يا بنتي واشمن حق، شكون ليذكرنا، عييت ما نادي على حقي عند خويا الوك ويخليو لي 300 درهم في المقاومة ديال باك مور موته.. لو كان ما كانوش خوتك ، وشوي ديك لاكريمة ديال باك كي ندير”

انا:

” وعلاش ما طلبتي من ابي ولاخوك بنعبدالله الوكوتي كلشي شاهد على اعتقالك”

الام الطاووس:

“كان عندهم النيف بزاف… باش ما يقولوش الناس راه دار للزوجة أو لأخته أو لأمه دوصي ديال المقاومة..  وكان كيقولي في بعض المرات عندما تمر الملفات في اللجنة كان “الرجال الالطال” يتحدثون عن النساء المقاومات بطريقة غير لائقة.. وهاذيك ما قاومات ما والو.. راها كانت فقط خليلة فلان أو فلان … وحتى اللي فوتوا الملفات ديالهم على ما سمعت كانوا ما يقولوش هاذي مقاومة بل هاذي زوجة المقاوم فلان.. بحال اللي يقول المرا حشاك…

وانا شوي ابنتي العار.. والكارثة امك الزهرة اللي قاومت مع الرجال جنبا لجنب وكّْلَتْ وشْرْبَتْ ونقْلًتْ السلاح.. تصوري القنابل ابنتي ما يقولها غير الفم ما اعطاوها حتى تعويض.. واش هذا حق… وإلا كان هكا قوليلي فين هو الباطل”

.انا مجروحة يااماه مكانك ومكان النساء الصنديدات.. أنا خجولة امام شرائع الرجال.. حتى ادب المقاومة كله عن الرجال أو عن بعض من النساء المثقفات، أما “الاميات الصنديدات” المشبعات بروح الوطنية واللواتي حافظن على مفاتيح اسرار أزواجهن وساندن الأخ والإبن لمقارعة المستعمر، وحملن السلاح وصمدن في وجه “السقيل”، والعنف الجسدي والنفسي، و الاعتقال فلا مكان لهن حتى في الروايات الشفاهية، وفي ارشيفات المقاومة ، إنهن فقط زوجات أو أمهات أو اخوات مقاومين رجال ليس إلا…

نحن لا نطالب أن تخلق ” مقبرة للشهيدات” أو ” بونطيون” لتدخله “النساء الصنديدات الاميات” بعد فنائهن، بل لا للنسيان، ولنرتق ما تبقى من الجروح النفسية، ورد الاعتبار لمن هن على قيد الحياة، وهن قلة. ، نساء خلد تاريخهن النسيان، لتصبح ذاكرتهن هشيما، فقط لانهن غير مثقفات، فالنقاومة لا تعرف مستويات في التعليم، بل التلقائية والوطنية…هن نساء كانت لهن ادوار في الميدان وخارجه..فكن مقاتلات، وامهات اعطت الحنان، طاهيات، وجواسيس (كلمة لا توجد مع الاسف في قواميس الرجال حتى منهم بعض المثقفين..لتتهم ااصنديدات بالعهر احيانا..ومن طرف مقاومين )، وغسل الملابس، بالإضافة إلى التوتر والعنف النفسي اللءان صاحباهن في حياتهن بسبب ما تعرض إليه أفراد عائلتهن في المقاومة او هن…

فما احزنني امي الطاووس،وامي الزهرة- رحمة الله عليك-، وعمتي لالا حنيفة-رحمة الله عليك-، وما حبيبة لالا رقية -رحمة الله عليك-، وكل” نساء المقاومة الصنديدات!”. لعل هذه الرحمة تكون لكن في ميزان الحسنات، وبردا وسلاما على ارواحكن الطاهرة، ورفاتكن.

يا إلهي… ما اشد حر الرجال اماه!!!!، زمن سخي امام قهر وذكورية الرجال وغلط وجهل من يصنعون الدهر. .كما يقول ابن الرومي:

وكالميزان يخفض كلّ واف … ويرفع كلّ ذي زنة خفيفه

فلا تيأسي، و لا تحزني ايتها المراة والام الصبورة، فمازالت شمس الأمل تقبل وجنتيك ، انت في مقتبل العمر، فقط 88 سنة، فاصمدي في سكينة لما تبقى لك من العمر كما صمدت تاء التأنيث قرونا بعد سبويه رغم الحذف والتسكين والتقدير..وانتظري لعل احدا يَلْتَفِتْ إليك، ويغدق عليك ما اُغدِقَ على الرجال!…

اصبري اماه، فما زلت فتية تقاومين ضراوة الحياة، وقهر الزمن، وظلم الرجال، إِنَّ مَوْعِدَنا “الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ” (81 من سورة هود)
.

بقلم تاء تأنيث عروسية لتأنيث عائلة مقاومة حذفت قهرا