بقلم: زكية لعروسي*
بينما كنت أقرأ رسائل أبي العلاء المعري، فوجئت بقول شاعرنا العظيم أبي العلاء المعري (973ء 1057): “ربما أسود كريه الرائحة يسمى كافورا أو عنبرا، وقبيح الصورة من البشر يدعى هلالا أو قمرا. وكيف يتأتى لي العلم وأنا رجل ضرير.” (رسائل أبي العلاء، ص 96).
لقد تأكدت من أن العنصرية هي من العيوب المشينة التي عجز الدين والسياسة عن القضاء عليها. كيف يمكن اعتبار السواد والقبح والعمى رذائل ومظاهر مشينة؟ هل كان السياق بريئًا أم ناتجًا عن قناعة موروثة؟ هل هي ثقافة خانت الأقلام كما خانت جهابذة الخيال والتخصص في هذا المجال؟ أعني هنا المتنبي (915ء965) الذي قدح في عدوه كافور الإخشيدي، واصفًا إياه بأنه ينحدر من “أنجاس مناكيد” بسبب لون بشرته.
كم هي قصائد المتنبي التي تحمل بين أبياتها تحيزات عنصرية لا تزال حاضرة في مقرراتنا الدراسية في المدارس والجامعات:
“صار الخصي إمام الآبقين بها
فالحر مستعبد والعبد معبود
العبد ليس لحر صالح بأخ
لو أنه في ثياب الحر مولود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن
يسيء بي فيه عبد وهو محمود
ولا توهمت أن الناس قد فقدوا
وأن مثل أبي البيضاء موجود
وأن ذا الأسود المثقوب مشفره
تطيعه ذي العضاريط الرعاديد”
يبقى السؤال مطروحًا: هل كان عداء المتنبي لكافور الإخشيدي سببًا كافيًا للتمايز العنصري باللون؟ وهل ما ورد في رسائل المعري يؤكد كثافة هذا الخطاب وحرية أدبائنا في تناوله؟
نعلم أن العنصرية بدأت تظهر جليًا في أدبنا العربي الجاهلي، كما يظهر في شعر عنترة بن شداد الذي كان كثيرًا ما يدافع عن لون بشرته وكأنها جرم أو خطيئة، كما في بيته:
“يعيرني العدا بسواد جلدي
وبياض خصائلي يمحو السوادا”
يبدو عنترة في موقف دفاع عن لونه، الذي يعتبره ضمنيًا وكأنه إثم خارج عن الطبيعة.
دون الإطالة في الحديث عن عنترة، وهو يستحق بحثًا قائمًا بذاته، نعود إلى موضوعنا وهو ما ورد على لسان المعري، والذي لم يكن أقل حدة مما نجده عند المتنبي. قلم زاهد (المعري) وآخر متفاخر بالكبرياء ومسترزق (المتنبي) كان لهما صيت أدبي بين خليط هائل من أقلام أخرى من إثنيات وأديان وأعراق مختلفة. يقول طه حسين عن هذين العلمين (المعري والمتنبي):
“والمتنبي حكيم ينتحل الحكمة ويتكلف الفلسفة، وأبو العلاء المعري حكيم حقًّا وفيلسوف لا يعرف التكلف ولا الانتحال؛ والمتنبي متكسب بشعره، وأبو العلاء لم يذق لشعره ثمرة مادية في حياته؛ والمتنبي محب للدنيا متهالك عليها، وأبو العلاء مبغض للدنيا زاهد فيها مزدر لطالبيها.”
قلمان واكبا منظومة فكرية عربية إسلامية لا تتقبل في أصلها النظرة العنصرية، بل تضع مبدأ المساواة بين البشر وعدم التمييز بينهم إلا على أساس التقوى في نصوص كثيرة. فلنستمع إلى المعري وهو يشبه الرخم البيض فوق الغبار الأسود بالشعرات البيض في مفارق أسود قد شاب مفرق رأسه:
“كأن الأنوق الخرس فوق غبار
طوالع شيب في مفارق السود”
وفي موضع آخر يقول:
“إذا اهتاج أحمر مستطيرا
حسبت الليل زنجيا جريحا”
تتجلى لنا العنصرية في أوضح صورها الثقافية، فيبدو لنا أن تصوير السود في أدبنا العربي لم يكن بحال أفضل من مثيله في الآداب الأخرى. إذ كان تصويرهم بشكل غير موضوعي منذ بداية الجاهلية مع شكوى عنترة من التحيز العنصري في قبيلته ومرورًا بالعصر الإسلامي ونحن نقرأ أبا العلاء المعري والمتنبي.
وقد تناول مولانا الجاحظ هذا الموضوع في رسالته “فخر السودان على البيضان”، وهي رد على العنصرية تجاه السود التي كانت متفشية في وقته، لكونه إفريقيًا من جهة أمه. ففي رأيه، البيئة وطبيعة المكان الذي نعيش فيه تؤثران في لون بشرتنا، لكنه سرعان ما يسقط في نفس ما سقط فيه عنترة باعتبار السواد تشويهًا:
“ونحن نقول إن الله تعالى لم يجعلنا سودا تشويها بخلقنا ولكن البلد فعل ذلك بنا. والحجة في ذلك أن في العرب قبائل سودا كبني سليم بن منصور وكل من نزل الحرة من غير بني سليم كلهم سود.”
والأمثلة كثيرة على مظاهر العنصرية الأدبية، فلم يخل شعر أبي نواس وبشار بن برد من ذلك، ناهيك عن أدبنا الشعبي الذي يعج بمثل هذه العقائد العنصرية، وكذلك الرواية المعاصرة المبطنة في صور سردية ومواقف عنصرية تبدو منفكة عن ذوات الروائيين وشخصهم.
فكيف يمكننا القول إن العنصرية إنتاج ثقافي أوروبي وغربي وهي تغص في أدبنا العربي القديم والمعاصر؟ لماذا أصبح اللون الأسود من المخاوف التقليدية في مجتمع اندمجت فيه الصحاري والقرى والمدن والجبال خارج سياق اسمه الرق أو اللون؟ وما هو حيز تأثير الأمور التاريخية والسياسية في قناعات الفرد من تحقير اللون الأسود؟
أظن أن هذه التساؤلات تتوجب على كل منا الوقوف أمام مرآة نفسه ومحاورتها ليُخرج منها أضدادها من البياض والسواد. ويجب الرجوع إلى موروثنا الأدبي والثقافي لفهم نبرة الخطاب العنصري المقيت الموجه في حاضرنا للمهاجرين في أوروبا وأمريكا حتى لا نطمس الحقائق ونتلاعب بأرشيفات التاريخ.
*شاعرة مغربية مقيمة بباريس