كتبه: سعيد بوعيطة
من منا لا يتذكر (خاصة الجيل الذي عاصر هذه الفترة) السؤال الإشكالي والعميق الذي طرحه الراحل معمر القذافي رحمه الله، حينما خرج في فبراير 2011 من غفوته، مأخوذاً ومصعوقاً برؤية جموع غفيرة من الليبيين، تطالبه بالرحيل، فصاح مُتسائلاً، مخاطباً تلك الجموع: من أنتم؟ كان سؤاله جدّياً. ولم يكن تهكّمياً، كما روجت له بعض وسائل الإعلام حينها. لأن الراحل معمر القذافي، لم يكن يعرف من هم هؤلاء المواطنين الذين كبروا في غفلة عنه، وأعلنوا تمرّدهم، وخرجوا يطالبونه بالرحيل.
وإذا كانت المناسبة شرط كمال يقال، فإن مناسبة توظيف هذا السؤال الذي يحمل في طياته مفارقة عميقة وسخرية حادة، تنجلي لنا حين نتأمل في السؤال جيداً، ونعمق التفكير فيه، أننا نجد أنفسنا أحيانا أمام أناس بأسمائهم وصفاتهم لا عهد لنا بهم ولا معرفة. وهو ما ينطبق على حالة لقاء ثقافي أقيم بداية هذا الشهر بمراكش، احتفاء بتجربة فنية وإبداعية مغربية. لكن على الرغم من شهرة المحتفى به، فإن اللقاء لم يحضره إلا أنا، ونزر قليل من الناس، وأهل الصحافة (كما وصفوا أنفسهم)، وصاحب الرواية.
أنا وصحافة الصورة وصاحب الرواية ثالثنا
في قاعة الندوات وجدت نفسي وحيدا، اتخذت لي مقعدا في الصف الأمامي للقاعة، لأكون أقرب إلى المشاركين في أشغال هذا اللقاء الثقافي، وأسجل ما تيسر لي من ملاحظات، وما تمكنت من استيعابه من أفكار المشاركين في اللقاء. على يميني لمحت شابة في عقدها الثاني أو ربما يزيد بقليل حسب تخميني، لأن ملامحها وحركيتها، يوحيان بذلك. تحمل في يدها اليمنى هاتفا ذكيا بلونه الوردي. قالت وهي توجه إلي الكلام بنوع من التردد: الأخ صحفي؟ فرددت عليها دون الالتفات نحوها: لا، أنا فقط من الحضور.
بعد قليل دخلت فتاة أخرى بمعية شاب في نفس عمرها، يحمل في يده اليمنى ألة تصوير لم أتبين نوعها، وتبعتهما شابة أخرى طويلة القامة نسبيا، زادها طولها خفة ورشاقة. يبدو أن الفتاة الأولى الجالسة بجانبي، تعرف هؤلاء الوافدين الجدد على القاعة. لأنها حركت رأسها فيما يشبه التحية وهي تنظر اتجاه كل واحد منهم، من دون أن تكلم أحدا. ولأنها لم تبرح مكانها على الجهة اليمنى من مقعدي، قالت بصوت خفيض: هؤلاء كلهم من الصحافة. فرددت عليها وأنا اصطنع الابتسامة: وأين الحضور الخاص باللقاء الثقافي من مثقفي المدينة؟ فردت دون تردد: ربما ستحضر الصحافة فقط، أما غيرهم، فلا وقت لهم للثقافة في مثل هذا اليوم.
وقد تحقق قولها فعلا . لأن قاعة الندوات الواسعة والنظيفة بشكل لا تخطئه العين، لم يلجها إلا أنا، وهؤلاء الصحافيين الشباب، وصاحب الرواية. ليجعلنا هذا الحضور المكثف من الصحافيين، نعيد صياغة سؤال الراحل القذافي: (من أنتم؟)، ليصبح حسب واقعة الحال التي عرفتها قاعة الندوات: (من هؤلاء؟). هل كل هؤلاء من الصحافة؟ وإذا ما أجبنا عن هذا السؤال بالإثبات، لماذا اكتفي هذا الحشد من الصحافيين بالتقاط الصور، وتسجيل فيديوهات بدون كتابة أي شيء عن اللقاء الثقافي، سواء قبل، أو أثناء أو بعد انتهاء أشغال اللقاء؟
صحافة الصورة أو الانفجار الكبير
لا أحد ينكر (أو يستطيع) اليوم، أن عصرنا، هو عصر الصورة بامتياز، وأننا نعيش في حضارة الصورة كما أشار الناقد رولان بارط. ولم تعد الصورة تساوي ألف كلمة (كما جاء في القول الصيني المأثور)، بل صار ت بمليون كلمة، وربما أكثر. لأنها أصبحت حاضرة في التربية والتعليم، وفي الأسواق والشوارع، وعبر وسائل الإعلام، وفي قاعات عرض الأعمال السينمائية والمسرحية و كذا الفن التشكيلي، كما أشار شاكر عبد الحميد في كتابه (عصر الصورة/ سلسلة عالم المعرفة، العدد 311، ص: 7،8). ليصبح المجتمع الإنساني مجتمعا تقوم الصورة بالوساطة في أنشطته الإنسانية كافة. مما جعل القراءة تتراجع لمصلحة المشاهدة، وهذا هو حصان طروادة الذي اقتحم بواسطته الكثير عالم الإعلام والصحافة. لأن (حسب تصورهم) الرؤية البصرية تتطلب عمليات معرفية أقل من القراءة. وهي وجهة النظر التي اعتبرها الباحث شاكر عبد الحميد في كتابه سالف الذكر، قاصرة وليست شاملة وعميقة.
فعلى الرغم من أن المشاهدة والرؤية البصرية، والمتابعة واستخدام الصور تتزايد بقوة، فإن القراءة لا تتراجع بهذا الشكل الذي جرى توقعه. ففي عالم الصحافة اليوم، تآكل مبدأ الواقع في متاهة الصور اللامتناهية، عالم من الصور المتخيلة والمختلقة والوهمية التي تنشرها وسائل الإعلام هنا وهناك، وواقع فقد يقينه شيئا فشيئا. إنه عالم الصورة أكثر منه صورة العالم التي تحدث عنها هيدجر. أو بالأحرى، إنها صور حول عوالم مخلقة أكثر منها صورا حول عوالم واقعية حقيقية، وصور حول صور أكثر منها صورا حول واقع أو حقيقة.
لهذا، لم تعد الصور أيضا قائمة على أساس المماثلة والمشابهة والنسخ المرآوي، بل على أساس التركيب والتهجين. مما ساهم في إمكانيات التزييف والتزوير للصور القائمة، ويؤشر على هيمنة ثقافة المظهر والشكل والإبهار واللمعان والاستعراض على حساب ثقافة الجوهر والمضمون والقيمة والعمق. ليتحقق ما أسماه بودريار ”صنمية الصورة. حيث تصبح الصورة المصنوعة، والتي هي مجرد انعكاس للواقع (وليست الواقع الحقيقي) هي الواقع ذاته. وتصبح لها مصداقية تفوق الواقع الحقيقي. وينظر الناس إليها على أنها طبيعية، فتصبح بديلا للواقع. ومن هنا، يكون دورها في تزييف الوعي وغيابه أيضا. فهل الذين حضروا اللقاء الثقافي، ليسوا سوى صحافة الصورة والفيديو التي أصبحت سمة العصر وموضته؟ أم نحن الذين أصبحنا لا نفقه شيئا، فأخدتنا الدهشة والصعقة التي أخدت الراحل معمر القذافي، فأصبحنا نتساءل بوعي أو بدونه: من هؤلاء؟ ولا زلنا نبحث عن مثقفي هذه المدينة العامرة، وغير مثقفيها في اللقاأت الثقافية؟ لكن إذا كان القذافي، لم يتعرف فعلا على الذين ثاروا على سلطته، فنحن نعلم علم اليقين، أن هؤلاء هم بكل بساطة صحافة الصورة، التي لا تملك من أساسيات الصحافة ومقوماته، سوى هواتفها الذكية.