كتبه: عبد الدين حمروش
تتناول هذه المقالات سيرة المؤرخ المغربي أبي القاسم الزياني. وزيادة على كون “ابن زيان” عُرف بالتأليف التاريخي، فقد تقلّب في وظائف مخزنية عديدة، منها الكتابة، والوزارة، والسفارة، والولاية، والحجابة. عاصر الزياني (أبو القاسم) خمسة سلاطين علويين ابتداء بالمولى عبد الله بن إسماعيل، وانتهاء بالمولى عبد الرحمن بن هشام، إلى أن كُتب له أن يشرف على المائة سنة. في مختلف مسارات حياته السياسية والعلمية، صدر أبو القاسم عن مواقف أصيلة، أهّلته إلى أن يوصف بزوبعة عصره. في هذه المقالات، نستعيد سيرة رجل دولة من الطراز الرفيع، قلّما يعرفه المغاربة من غير المطلعين على التاريخ، ونستعيد معها القضايا السياسية والثقافية المستجدة آنئذ، في اشتباكها مع ما كان يدور في القصور والبلاطات، من مؤامرات وتصفيات حساب، بين الأمراء والوزراء والكُتّاب.
(الحلقة الحادية عشرة)
هكذا، كانت بداية تطلُّع الزياني إلى الخدمة لدى السلطان. وفي تطلعه ذاك، ما كان ليتردد في القطع مع تقاليد الأسرة، أي في نأيها عن الاشتغال لدى السلاطين والأمراء. جَدُّه لأبيه، الفقيه الإخباري سيدي علي بن إبراهيم، لم يتعد إمامة الصلاة بالسلطان المولى إسماعيل. ومن المؤكد أن يكون الجد قد أحاط بدواليب الحكم، والمؤامرات التي ظلت تحدث في أكنافه، ويروح ضحيتها كُتاب، ووزراء، وقُوّاد جيوش. كما أنه من المؤكد أن يكون قد سرد ما ظل يجري في تلك الدوائر داخل أسرته.. وإلا من أين أتى الابن (والد أبي القاسم) بذلك الموقف الرافض للخدمة لدى السلاطين؟
لم يكن الأمر مجرد نصيحة، التزم بها الوالد تُجاه ابنه، وإنما “تدخّل” قوي لمنع الأخير من الالتحاق بزملائه لدى السلطان. الحوار الطويل، بين الوالد والولد، كشف عن طبيعة الخلاف الحاد بين الطرفين. كان يحكي الزياني بتشويق: “فلما بلغ ذلك والدي رحمه الله، نهاني عنها وشرح لي حالها ومآلها، وقال لي: يا بنيّ، اتّق الله، واشتغل بما يعنيك، ولا تقدم على ما يضنيك، فما لي سواك، ولا أستريح حتى أراك، وبك أتعلّل، وأزيل وحشتي، ويحصل أنسي، فساعدني إلى أن تجعلني في رمسي”.
موقف الوالد من التحاق الابن بخُدّام السلاطين، جاء بصيغة على أساس نهي، لاقتناعه بما في تلك ” الخدمة” من ضنى لطالبها. لقد كان الوالد ” يعزف” على وتر الأبُوّة، من أجل ثنْي الابن عن مسعاه، لمعرفته مكانته لديه. يقول الزياني في هذا بالترجمانة: ” وكان رحمه الله يحبُّني، إذ لم يبق له من أولاده غيري، وكنت أسعى في خاطره ورضاه بكل ما يرْضاه، وأسعى في خاطر والدتي على طيشي وحِدّتي”. زيادة على ذلك، فإن الوالد ربط الابتعاد عن السلاطين بتقوى الله، وكأن الاشتغال لديهم، بالمقابل، مروق إلى المعصية والخطيئة.
وإن لم يتفوّه الوالد بلفظ المعصيّة، بحكم أنه جاء مُواربا في دعوة ابنه إلى التقوى، إلا أن الأخير ذكره في موقف الاحتجاج قائلا: ” وأية معصية في هذا المجال؟ ولابد أن أقتدي بمن قال:
لباب الملوك فكن لازما // ولا تخش ممن بغى أو حسد
فإن الذئـــــاب تهـاب إذا // تمرغ يوما بباب الأســـــــد
في إثر ذلك، بادر الوالد، في خُطته لإفحام ابنه، إلى الاستشهاد بمجموعة من الأبيات الشعرية، التي حذرت كلها من الاشتغال لدى الملوك. وفي البداية، يأتي موقف المثقف المغربي أبي علي اليوسي، الذي خبِر العلاقة بالملوك، أي السلطان المولى الرشيد والمولى إسماعيل، معاً، من خلال البيتين الشهيرين التاليين:
لا تقربنّ مالكا ولا تلوذ بـــه // ولو تنل عنده عزا وتمكيــــنا
يستخدمونك في لذات أنفسهم // فيذهب العمر لا دنيا ولا دينا
ثم تتالى الأبيات التي وردت في سياق الاستشهاد، والتي يمكن عدها ذخيرة نفيسة في التحذير من خدمة السلاطين. ومن تلك الأبيات، القوية والجريئة في معناها، ما أنشده “سيدي عبد الكريم السرغيني” للوالد:
إن الملوك بلاء حيثما حلـــوا // فلا يكن لك في أكنافهم ظــلُّ
تحلو لديهم إذا عللت ما علوا // فإن نهيتَ رجعت عندهم كَلُّ
فاستعن بالله عن أبوابهم تعلـو // إن الوقوف على أبوابهـم ذُلُّ
إضافة إلى قول القائل:
تباعدْ عن السلطان لا تغشَ بابه // فتسلب دنيا أو تصيبك واجـده
فليس ينام من ألمّ ببابــــــــــــــه // وإن هو أغناه وسدّ مفاقــــــده
وما هو إلا النار تحرق مــن دنا // إليها فلا تقربه واخش بوادره
أو قول ابن الوردي في قصيدة، هذا بيت منها:
جانبِ السلطان واحذر بطشه // لا تعاندْ من إذا قال فَعَل
يظهر أن موقف الوالد من “خدمة الملوك” كان مُرتَّبا على خلفية واضحة، بالنظر إلى إحاطته بمجموعة من “الأدبيّات” في الموضوع، مما يمكن عَدُّه من الآداب السلطانية، وإن في جانبها المُعارض المُحذر من الاقتراب من السلاطين. وعلى الرغم من كل ما أسداه الوالد للابن، ناهيا، وشارحا، وناصحا، ومُحذرا، إلا أن عزمه كان لكل ذلك بالمرصاد، على حد تعبيره: ” فلم ينفع عزمي نهيُه، ولا ردني إنذارُه وهديُه”.