كتبه: عبد الدين حمروش
الحلقة السابعة
تتناول هذه المقالات سيرة المؤرخ المغربي أبي القاسم الزياني. وزيادة على كون “ابن زيان” عُرف بالتأليف التاريخي، فقد تقلّب في وظائف مخزنية عديدة، منها الكتابة، والوزارة، والسفارة، والولاية، والحجابة. عاصر الزياني (أبو القاسم) خمسة سلاطين علويين ابتداء بالمولى عبد الله بن إسماعيل، وانتهاء بالمولى عبد الرحمن بن هشام، إلى أن كُتب له أن يشرف على المائة سنة. في مختلف مسارات حياته السياسية والعلمية، صدر أبو القاسم عن مواقف أصيلة، أهّلته إلى أن يوصف بزوبعة عصره. في هذه المقالات، نستعيد سيرة رجل دولة من الطراز الرفيع، قلّما يعرفه المغاربة من غير المطلعين على التاريخ، ونستعيد معها القضايا السياسية والثقافية المستجدة آنئذ، في اشتباكها مع ما كان يدور في القصور والبلاطات، من مؤامرات وتصفيات حساب، بين الأمراء والوزراء والكُتّاب.
وردت الآية القرآنية (إلخ) في مطلع جواب التونسيين على رسالة محمد بن عبد الوهاب. والسياق كما كان، هو ظهور “الوهابية”، ومُكاتبة “مبتدعها” ابن عبد الوهاب إلى التونسيين والمغاربة في شأنها. وبذلك، نشأت قضية أثارت الاختلاف بين الزياني والكنسوسي. وكما سلف، فالموقف الأول من “الوهابية” كان لأبي القاسم، وهو موقف سلبيّ دفعه إلى أن يحكم عليها بالمذهب الفاسد والبدعة الشنعاء. وفي سياق ذلك، سجل رسالتين، الأولى إلى محمد بن عبد الوهاب إلى علماء تونس، ومنها إلى المغرب. أما الرسالة الثانية، فجاءت عبارة عن جواب التونسيين على رسالة محمد بن عبد الوهاب.
والملاحظ أن أبا القاسم استند إلى جواب التونسيين في الحكم على رسالة الوهابيين، والذي مفاده دحض ما جاء في مذهبهم ” وأما ما قُلتَه عليهم في تكفيرهم بزيارة الأولياء والصالحين، وجعلهم واسطة بينهم وبين رب العالمين، وزعمتَ أن ذلك شنشنة الجُهّال الماضين، فنقول لكم في جوانبه معاذ الله أن يعبد مسلم تلك المشاهد” إلى أن يصل نص الرسالة إلى ما يلي: ” فإن التوسل بالمخلوق مشروع، ووارد في السُّنّة القويمة ليس بمحظور ولا ممنوع (…)، ويكفي منها توسُّل الصحابة والتابعين، في خلافة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، واستسقائهم عام الرمادة بالعبّاس”.
لا نريد أن نتوقّف كثيرا عند الموقف من المذهب الوهابي بحد ذاته، فنُفصِّل ما جاء فيه، وما رد به التونسيون في موضوعه. ليس هذا مطلبنا الآن. ولذلك، فإن عنايتنا ستتّجهُ إلى اتجاهين: علاقة الموضوع بالفقيه الأديب حمدون بن الحاج، وعلاقته بموقف السلطان المولى سليمان. فبالنسبة إلى الشخصية الأولى، وقد اتّضح موقف الزياني السلبي من دعوة الوهابيين، كان من الطبيعي أن يُوجه هجومه إليه، بحكم مدحه للوهابيين بغير حق، إلى حد أن اعتبره ” بلغ في المقت إلى مدح المبتدع الوهبي في رسالته، بقصيدة ميميّة كانت مُرسلة لفضيحته (…) ولا تقع إلا من مُبتدع مثله، ومن يتعاطى مذاهبه ونِحَله”.
في رد الفعل العنيف، الذي قام به الزياني إزاء حمدون بن الحاج، يمكن ملاحظة تبنّي ما جاء في جواب التونسيين من حُجج وأدلة. وفي سياق ذلك، اتُّهِم فقيه المغرب وأديبُه بالغفلة، والتسرع بمدح الوهابي دون رويّة، وبخاصة لما وردت إليه نسخة من جواب أهل تونس لسعود الوهبي ” ولما طالعه حمدون سقط في يده، وعلم انه أخطأ في مدحه، ووقع في الملامة بين أبناء جنسه”. والسؤال، الذي يفرض نفسه، الآن، هو: هل كان موقف حمدون بن الحاج بتوجيه من المولى سليمان، بما كان يعني قبول الأخير بالدعوة الوهابية؟
فِي ما تعلّق بأبي القاسم، فابن الحاج قام بما قام به من تلقاء نفسه، بدون الرجوع إلى السلطان. ولذلك، سنجده يتوعده بعقاب أمير المؤمنين، فور العلم بقصيدته المدحيّة بحق الوهابيّين. يقول: ” ووالله، لو علم أمير المؤمنين ما اقترفه وجلبه، لكان من الحين انتقم منه وصلبه، وإن خفّف عقوبته سبّه وضربه وإلى السجن دفعه وقرّبه، فكيف يُمدح المبتدعُ الضّال ويُشكر (…) أم كيف يتقرب إلى من يخيف أهل الحرمين، ويمنع زيارة الأنبياء والتوسل بهم إلى رب السماوات، وينهى عن قراءة دلائل الخيرات والدعاء بمقامات الأولياء أهل الكرامات؟؟؟”.
في احتمال الزياني، لا يختلف موقف المولى سليمان عن موقفه هو نفسه، وإلا ما كان ليتوقع ما سيحصل لابن الحاج، لو علم السلطان بقصيدته المدحيّة. لقد قرر الزياني غفلة الأخير، وبخاصة بعد أن سقط جواب التونسيين في يده؟ فهل كان حمدون مُغفَّلا فعلا؟ ثم أليس يكون الزياني هو المُغفَّل، لغياب معطيات، بشأن الموقف السلطاني من الوهابية، عن علمه؟ لعل ذلك هو ما ذهب إليه الكنسوسي، مُتبنيّا اللغة العنيفة ذاتها إزاء زميله في الكتابة والوزارة. فبقدر الهجوم الذي سلّطه الزياني على حمدون، وجدنا نظيره يُسلَّطُ من أكنسوس على الزّياني. عن طبيعة اللغة العنيفة، المُستعملة بحقّ الأخير، يمكن الاستشهاد بالمقطع التالي: ” ثم تمادى هذا الجهول الزياني على الفحش والتنقيص لعالم الدنيا وإمام الملّة المُحدِّث المُفسِّر، بحر العلوم المنقولة والمعقولة”.
بعد أن يُوفّيَه حقّه من الشّتم والتّجريح، وضّح الكنسوسي أن الذي حصل من ابن الحاج، فِي ما تعلّق بمديحته للوهابي، إنما كان بتوجيه من السلطان ” مع أن الشيخ أبا الفيض سيدي حمدون إنما أجاب بأمر من السلطان وعلى لسانه، وذهب بجوابه ولده وخليفته مولاي إبراهيم”. هل كان الزياني أقرب إلى الجواب التونسي؟ وبالتالي، هل خالف موقف السلطان نفسه؟ للتخفيف من حدة الاختلاف، يمكن الاستئناس بـ “تخريجة” مُحقِّق “الترجمانة”، الذي رأى في الوهابيين، المقصودين من الزياني، أولئك الخارجين عن حقيقة المذهب الوهابي نفسه ” أولئك الذين حاربوا الحجازيين، ثم قتلوا وخرّبوا باسم الدعوة، وهم الذين عاصر المؤلف أعمالهم وما قاموا به إزاء آل البيت، مما لا يتّفق والخُلُق الإسلامي القويم”.