سيرة “رجل دولة” مع أربعة سلاطين (الحلقة السادسة)… تُحفة النبهاء بين الفقهاء والسفهاء

                 كتبه: عبد الدين حمروش

تتناول هذه المقالات سيرة المؤرخ المغربي أبي القاسم الزياني. وزيادة على كون “ابن زيان” عُرف بالتأليف التاريخي، فقد تقلّب في وظائف مخزنية عديدة، منها الكتابة، والوزارة، والسفارة، والولاية، والحجابة. عاصر الزياني (أبو القاسم) خمسة سلاطين علويين ابتداء بالمولى عبد الله بن إسماعيل، وانتهاء بالمولى عبد الرحمن بن هشام، إلى أن كُتب له أن يشرف على المائة سنة. في مختلف مسارات حياته السياسية والعلمية، صدر أبو القاسم عن مواقف أصيلة، أهّلته إلى أن يوصف بزوبعة عصره. في هذه المقالات، نستعيد سيرة رجل دولة من الطراز الرفيع، قلّما يعرفه المغاربة من غير المطلعين على التاريخ، ونستعيد معها القضايا السياسية والثقافية المستجدة آنئذ، في اشتباكها مع ما كان يدور في القصور والبلاطات، من مؤامرات وتصفيات حساب، بين الأمراء والوزراء والكُتّاب.

الحلقة السادسة…

الكتاب ينتظم ضمن الكتب التي تمّ إحراقها، على شاكلة كُتب الغزالي وابن حزم وابن رشد. وقد بلغ الهجوم على الكتاب، حسب الأستاذ عبد الكريم الفلالي، إلى درجة أن “كان بعضهم يشتريه بأغلى ثمن ليُقدِّمه قُربانا للنار”. ولو لم تتبق نسخة بيد الشيخ عبد الحي الكتاني، لفُقِد أثر المخطوط بشكل نهائي. لقد تميزت مسيرة الزياني العلمية بالحيوية والتنوع. ذلك أنه لم يترك مجالا إلا خاض فيه، مُشاركا بمواقفه النقدية الجريئة. وإن أُرجِعت الجرأة النقدية إلى أصالة في شخصيّته، رسّختها ظروف العصر المُضطربة القاسية، إلا أن الأستاذ الفيلالي ذهب إلى أن يسار أسرة الزياني، بناء على ما جمعه الجدّ والوالد من بعده من ثروة، كان العامل الصريح الذي حرر المؤرخ في تعبيره وأسلوبه “حتى إننا لنجد في كل كتبه مما يتصل بواقع المغرب، وما عرفه في عصره، ما لم نجده في غيره”.

في موضع سابق، أشرنا إلى تفرُّد أبي القاسم في كتابة تاريخ عصره، وفي طليعته سيرة السلطان سيدي محمد، وسيرته هو مع السلاطين الذين بقي حيّا إلى عصرهم، حتى التحق ببلاطاتِهم وخُدّامهم. وقد لاحظ الباحثون أهمية الزياني في هذا الباب، زيادة على أهميته في نهج أسلوب تاريخي خاص “هو إلى كل ذلك تاريخ للأفراد، قبل أن يكون تاريخا للحوادث، وتلك هي طريقة المنهج الحديث”، على حد وصف الأستاذ الفيلالي في جانب آخر.

كمثال عما نسعى إليه في هذه المقارنة، بوسعنا التركيز على “رجل” آخر من رجالات العلويّين. هذا الرجل، جمع في شخصه أكثر من مهمة ووظيفة. فإضافة إلى كونه شارك الزياني في فترة تاريخية معينة، فقد جمعت بينهما الكتابة والوزارة، خدمة للملوك الذين تولوا مهمات لديهم، وإن ظل الزياني يتمتع بالاتساع فيها والامتداد من غيره. الكاتب المؤرخ والوزير، الذي نقترحه طرفا مُقابلا في المقارنة، هنا، هو المُراكشي محمد أكنسوس (أو الكنسوسي بصيغة أخرى).

ولقد سبق أن أشرنا إلى أن أكنسوس، إضافة إلى الناصري، لجأ إلى الزياني، في كتابة تاريخه “الجيش العرمرم الخماسي في دولة أولاد مولانا عليّ السجلماسي”. من حيث طريقة بناء “البستان الظريف”، اعتمد الزياني على تبئير فصوله حول العصور السلطانية العلوية، إلى أن وصل إلى عصر السلطان سيدي محمد بن عبد الله. وبالإحالة إلى عهد كل سلطان، على حدة، خصّص المؤرخ “بابا” لفضيلة بارزة في هذا السلطان أو ذاك. فمثلا، بالنسبة إلى السلطان إسماعيل، صدّر الحديث عن عهده بـ ” باب في الشجاعة”، على أساس أنها الغالبة فيه. وبالمقابل، صدّر الحديث عن عهد المولى عبد الملك بن سماعيل بـ “باب في البخل والشّحّ”.

أما إذا طالعنا منهج الكنسوسي، وجدناه قد جعل “الرايات” عناوين لكل عصر سلطاني. وفي سياق ذلك، جعل كل راية متميزة بلون مُعين، مع شرط الإحالة المعنوية إلى طبيعة العصر، سواء أكانت إيجابية أم سلبية. وبالعودة إلى السلطان إسماعيل، وجدناه وقد وصف “راية” عصره بكونها ” حمراء ذات الأذيال السابغة والأنوار البازغة”، في مقابل “راية” المولى اليزيد، التي وصفها بـ ” الراية الزرقاء الكسيفة المنظر الكريهة المخبر”

إن تأثير الزياني في الكنسوسي واضح، بحيث لا يحتاج إلى جهد في التدليل. ولذلك، من شأننا التركيز على ماهية القضايا المشتركة بين الوزيرين/ الكاتبين من جهة، ومضمون المواقف المعبر عنها، من قِبل كل واحد منهما، بالنسبة إلى كل تلك القضايا المطروقة، من جهة ثانية. وفي البداية، ينبغي أن نؤكد أن الزياني كان هو المبادر إلى طرح مواقفه من جُملة تلك القضايا، بينما بقي أكنسوس في موقف المنفعل بما أثاره زميله، وبالتالي لم يتجاوز تدخله رد الفعل. زيادة على كل ذلك، يمكن تسجيل طبيعة العلاقة التي كانت تجمع بين “الرَّجلين”، في اتجاهها من أبي عبد الله الكنسوسي إلى أبي القاسم الزياني، بحكم تَقدُّم الثاني في السّن والخدمة. ففي اعتراضات الأول على الثاني، كانت تثير انتباهنا بعض العبارات المستعملة، أي التي كانت تخرج إلى التجريح أحيانا، كما هو الحال في اعتراضه على فهم الزياني لبيتين شعريين: ” وهذا كلام من لم يذق شيئا من أسرار الكلام، ومن لم يكن له بغير الظواهر إلمام، وإنما مَرتعه مَرتعُ جَهَلة العوام”.

ليس بخاف الهجوم العنيف، الذي قاده الكنسوسي ضد الزياني، نتيجة للخلاف حول الإحاطة بـ “مجرد” بيتين من الشعر. أدرك الأول أن صاحبه عالم موسوعي، مؤرخ، وكاتب، ووزير لأكثر من سلطان. فَلِمَ كان ذلك التحقير المُبالغ فيه، حد اعتبار “خصمه” ضمن ” جهلة العوام”. ما من شك في أن هناك كانت منافسة شديدة بين الرجلين، على عادة جميع خُدّام البلاطات والقصور، وما يقع بينهم من تنافس وتسابق لدى الملوك والسلاطين، بل تخاصم وتصارع وتآمر. ليس من اهتمامنا أن نتعقّب ما هو شخصي في العلاقة، وذلك أكثر من أن نضع الأخيرة في سياق ما هو موضوعي، من خلال اتخاذ القضايا الفكرية والسياسية والأدبية إطارا للخلاف.