هناك خطر حقيقي على قيم ترتبط بثقافتنا العربية والإسلامية، نحس به يتهدد الأجيال القادمة من جراء تنميط الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي، من خلال صور تغزو هذه الفضاءات وتنتشر في الفضاء العام، عبر خطاب الإشهار والماركوتينغ… ومهما تكن حداثيا ومع الحريات الفردية، فإن الحفاظ على توابث الهوية الوطنية والقيم المرتبطة بها، يجعلنا نحارب التطرف بكل أشكاله وأيا كانت خنادقه.
فكما نصرخ عاليا في وجه التطرف الجاهل والظلامي، الذي واجه بالتكفيرالتعبيرعن قيم إنسانية، كالحب والود. وجعل من تصوير قبلة أو الحديث عن حميمية العلاقة بين الرجل والمرأة، في فيلم تخييلي أو رواية من باب المحرمات. فإننا نواجه التطرف في التلميح الضمني أوالصريح لعلاقات وظواهر خارجة عن خصوصية مجتمعنا المغربي. ولا يمكن أن نقبلها تحت يافطة الحداثة، في زمن ما بعد الحداثة هذا، الذي صارت فيه جماهير المتتبعين هي السلعة الحقيقية للصناعات الثقافية المتوحشة القادمة من هنا وهناك. والتي تغزو محيطنا، عبر الأنترنيت، وتجعلنا مدعاة للإستلاب والإنزلاق نحو التقليد الأعمى، تحت تخدير الصور والرسائل السوبليمينالية، التي تخاطب لاوعي المتلقي. إذا كانت المنصات الرقمية وقنوات البث على الويب ووسائل التواصل الإجتماعي، وسائل “حرة” لصناعة المحتوى وبثه والترويج له، فإنه على المرفق العام الخاص بالسمعي البصري من قنوات وإذاعات عمومية أو مرخص لها، حسب دفاتر تحملات، أن تؤدي دورها التربوي أساسا في الحفاظ على الهوية الوطنية بمختلف مرجعياتها والقيم التي تحملها، في انفتاح على الحداثة والتقدم.
لأنه في غياب هذا الدور، والإنسياق الجارف نحو الترفيه، سيجد الأطفال والمراهقون أنفسهم، أمام بحر بلا حدود يمكنه أن يحمل مع تياره عددا من الضحايا من هؤلاء الأطفال والمراهقين، وحتى الشباب الأكبر سنا، الذين سيتشبعون بأفكار وسلوكات هجينة، دون تمحيص ودون أدنى خطاب مقابل يحافظ على خصوصيتنا الثقافية والإجتماعية. إن أدوار الثقافة والعروض الفنية سواء الحية أو المسجلة، يتمثل في تعزيز القيم والهوية والتراث والإحتفاء به، في انفتاح على المستقبل واستشرافا له. وإن إرساء صناعات ثقافية، وإن كان سيخدم الدورة الإقتصادية وسيساهم في تشجيع السياحة ويجعل من الثقافة قوة ناعمة تساهم في التنمية والإقتصاد الوطني، فإن الجانب السلبي للتعامل مع الثقافة كصناعة وترفيه، يتخد من التراثين المادي واللامادي مجرد ذريعة للتسويق، يكاد يتحول فيه المتلقي نفسه إلى سلعة معتقدا أنه مستهلك. ولخير دليل على ذلك، هو أن المنتجين يبيعون للمستشهر عدد اللايكات والمتابعين، كشاهد على نجاح عمل فني، يتوخى التنميط ولا نتذكر منه سوى اللازمة وريتمها الذي يتكرر، وغالبا ما ننسى مضمون العمل الفني برمته.
وهذا ما يتحدث عنه في كتاباته، بإسهاب، الفيلسوف وعالم الإجتماع وعالم النفس والموسيقي الألماني تيودور أدورنو، أحد أبرز أعضاء مدرسة فرانكفورت النقدية، والذي كان من أول من استعملوا مصطلح الصناعات الثقافية أوتصنيع الثقافة. إن المغرب، الذي لم يستطع بعد، رغم بعض مراحل توهج العمل الثقافي والفني فيه، أن يرسي الثقافة واستهلاكها كتقليد وحق للمواطن يساهم في تحصينه وتحصين الهوية والقيم الوطنية، لا يمكن الإنتقال فيه مباشرة إلى تصنيع الثقافة، دون أن نأخد بعين الإعتبار معطيات اجتماعية واقتصادية تحكم سوسيولوجيا التلقي لدى الجماهير المفترضة.
كما لا يمكننا أن نضع في سلة واحدة، قطع فنية أصلية كلاسيكية أوتجريبية تتوخى مخاطبة الفكر، ولها وقع بيداغوجي، ومنتوجات فنية هدفها حشد أكثر عدد من الجماهير، تحت يافطة الترفيه وهدفها فقط التنمية الإقتصادية والسياحية وما إلى ذلك. على الدولة أن تشتغل على المستويين الإثنين، وإن كانت ترى أن الإعالة الإجتماعية للفن والفنانين قد أنهكتها ويجب أن يتحول قطاع الثقافة إلى قطاع منتج. وسيكون من باب المجازفة بالأمن الثقافي وقيم المجتمع وهويته، الإنتقال بسرعة البرق نحو تصنيع الثقافة كمؤشر أوحد ووحيد.
ولعل سنوات تعميم “المواسم” المرتبطة بالثقافة الشعبية وسياسة “العام زين” التي طالت المسرح التجاري والموسيقى الشعبية، في تلك المرحلة، دليل على أن ذلك لا يخدم الدولة وحضورها كهوية وثقافة على المستوى الدولي والإقليمي في شيء. فرغم كون المعطيات الدولية، المرتبطة بالصناعات الثقافية وبالغزو الرقمي، تفرض الصعود إلى القطار وهو يتحرك، إلا أن هذا لا يعني المجازفة بتحصين الهوية والقيم.