بقلم: عبد الحميد جماهري
في تعليل اعتراف دونالد ترامب بسيادة المغرب على الصحراء، نجد عودة صريحة إلى الماضي، وبالذات إلى اعتراف المغرب باستقلال الولايات المتحدة عام 1777 وقد كتب ذلك للتاريخ أيضا يوم 10 دجنبر 2020 حرفيا. تابع ترامب قائلا”: لقد اعترف المغرب بالولايات المتحدة عام 1777، ومن ثم فمن المناسب أن نعترف بسيادتهم على الصحراء الغربية”.
سيكون من المجدي، في التحليل وفي محاولة الفهم، أن نطرح حصة التاريخ والمجد التاريخي في خطاب التنصيب الذي أعلنه، ومن ثمة الحديث عن أشياء من الحاضر على هذا الأساس، بل نجازف بالمغامرة في تفسير موقعنا في هذا المضمار، فهذه العودة إلى الماضي هي عودة ، في الواقع، إلى اللحظة التأسيسية للولايات المتحدة في عهد محررها جورج واشنطن، الذي تولى القيادة العسكرية العليا في حرب التحرير (1775-1783) قبل أن يحكم البلاد (1789-1797)، بما تحمله من سيولة رمزية، وبما تبشر به من هوية أمريكية مبنية على بُعد تاريخي. ولقد ظلت أمريكا، في تقدير الكثيرين، أمة ليست في حاجة إلى تاريخ، بل اعتبرت العديد من كتابات أبنائها أنها مرت من الفوضى الهمجية إلى الهيمنة دون المراحل الخلودنية المتعارف عليها تاريخيا.
بالعودة إلى رسالة الوداع الشهيرة التي كتبها جورج واشنطن، الذي يعتبر المؤسس للحياد الانعزالي الأمريكي، تستبد الدهشة بالقارئ وهو يرى التشابه الكبير بين خطابها وخطاب التنصيب الذي ألقاه دونالد ترامب، يوم الاثنين 20 يناير. وهي العودة الأكثر عمقا في التاريخ. ومن خلالها نستشف نوعا من المبرر التاريخي والديني في تبرير العلاقة مع أوروبا والعالم الخارجي.
وعليه يتضح ما نقصده من التوازي التالي:
في رسالة الوداع عند جورج واشنطن نقرأ: “إن القاعدة الكبرى إزاء الدول الأجنبية، ونحن نعمل على توسيع علاقاتنا التجارية، هي ألا يكون لنا معها إلا أقل ما يمكن من العلاقات السياسية. إن سياستنا الحقيقية يجب أن تتجنب التحالفات الدائمة مع أي طرف من العالم الخارجي”. أما أوروبا، القوة الاقتصادية المهيمنة وقتها في العالم، فإن واشنطن يقول: “إن لأوروبا سلسلة من المصالح ذات الأولوية التي لا تهمنا في شيء أو لا تمسنا إلا من بعيد”.
وهو المضمون نفسه في العلاقة مع الصين المهيمنة التي فهمت المغزى والرسالة وأعربت عن إرادتها في “التعاون الإقتصادي”، الذي يعد جوهر القدر الأمريكي الحتمي والجلي. ولعل الاتحاد الأوروبي فهم الرسالة أكثر من غيره، حيث أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين أن الاتحاد الأوروبي سيتعامل ب”براغماتية” مع الولايات المتحدة. وقالت في كلمة ألقتها في دافوس: ” أولويتنا القصوى ستكون الدخول في حوار دون تأخير لدراسة مصالحنا المشتركة والاستعداد للتفاوض”، مشددة على أن أوروبا ستدافع عن “مصالحها” و “قيمها”.و”قيمها.”
علاوة على ذلك، فإن شعار “أمريكا أولا” يحيل على انعزالية أمريكية تجد بذورها في الأفكار الأولى لمحرر العبيد بما تعنيه السيادة المطلقة والحرية التامة للولايات المتحدة. وقد جسدتها قراراته الأولى في الانسحاب من كل ما يربطه بالعالم (اتفاقية المناخ، المنظمات الدولية، الصحة، الأونروا وغيرهما) والخروج من الحروب الأوروبية (أوكرانيا حاليا). أوروبا أكثر تضررا، بسبب تبعيتها الثلاثية لأمريكا: دفاعية من حيث التسلح، والذي بلغ مداه مع حرب روسيا وأوكرانيا، وتكنولوجية، بحيث إن القوة كلها كانت بجانبها. رئيس مجموعة “ميتا” مارك زاكربرغ، ومؤسس شركة “أمازون” جيف بيزوس، وقطب التكنولوجيا إيلون ماسك المقرب جدا من ترامب، وطاقية لأن أوروبا في حاجة إلى النفط الأمريكي.
لم يغب عن خطاب ترامب حضور البعد التبشيري بالقوة الأمريكية العظمى ومنحاها اللاهوتي السياسي، باعتبار تأكيده على العصر الذهبي، وأن الله أنجاه لكي يخدم أمريكا. نجد في العودة الأقل عمقا إلى أدبيات هذا المنبت اللاهوتي لأمريكا الشعار الديني العتيق “قدر سلالة أمريكا العتيقة” (Destinée Manifeste)
والعودة إلى مهمة التبشير بالقدرية المحكوم بها على أمريكا من خلال آبائها المؤسسين الطهرانيين ـ طهرانية إصلاحية تنسب إلى الكالفينية ـ تحيلنا إلى فلسفتها كما تضمنه آلمصطلح لأول مرة لدى الصحافي النيويوركي جون سوليفان عام 1845 بعد نصف قرن من رسالة واشنطن، وفي مقال العقدة الجديدة، نجد دعوة صريحة إلى ضم تكساس وتبرير “الحق الإلهي” الأمريكي في ضم شمال الولايات المتحدة كما هو حال ضم دولة بنما وكندا نفسها اليوم.
خطاب ترامب جاء حافلا بهذه التبشيرية المهداوية، لما اعتبر أن “الله أنقذه ليعيد لأمريكا عظمتها”، وأن ”عصر الولايات المتحدة الذهبي” بدأ الآن، وأن مرحلة” أفول الولايات المتحدة انتهت”. ترامب الذي وعد بـ”زرع العلم الأمريكي فوق كوكب المريخ” كان يُحيي النزعة كما وردت في العقيدة. شعار السلام في العالم يحيل على مهمة حضارية تبشيرية وإلى شعار انتخابي عند الرئيس وودرو ويلسون الذي انتُخب عام 1912 على أساس”: الرئيس حافظ علينا بعيدا عن الحرب”. ولعل من الشروط التي تجعله قويا في سياسته هو غياب سلطة مضادة تعارضه، لا داخل حزبه ولا داخل الحقل السياسي، وحصوله على الأغلبية الوفية له في مجلس النواب ومجلس الشيوخ وفي المحكمة العليا. حالة التبعية عند الديمقراطيين جعلته يبدو وكأنه يعبر عن امتزاج بينهما.) صنع تعيين ماركو روبيو حالة إجماع أمريكية داخل الكونغريس(