بقلم: عبد الدين حمروش
أعلن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، أمس، عن مبادرة، لإيقاف الحرب في غزة، بحسب اللغة المستعملة من السياسيين الغربيين، في توصيف ما يحدث للغزيين اليوم. أما إذا استعملنا اللغة الموضوعية المستعملة، من قبل الهيئات والمنظمات الإنسانية، والأنظمة الحرة في العالم، فإن الأمر يتعلق بمحرقة، أضرمت في أتونها أجساد الغزيين، وبخاصة من الأطفال والنساء والشيوخ.
مبادرة أمس لإيقاف الحرب، أعلن عنها الرئيس الأمريكي، على الرغم من إشارته إلى أن ما جاء فيها، كان بمبادرة من حكومة الاحتلال نفسها. وسواء تعلق الأمر بتبادل أدوار، في ما بين الأمريكان والصهاينة، حول مسألة صياغة مقترحات المبادرة، فإن الذي ينبغي تسجيله هو خضوع حكومة الحرب إلى مطالب المقاومة الفلسطينية في غزة، مجسدة في إيقاف الحرب الهمجية، قبل الدخول في أية أمور أو تفاصيل.
لأول مرة، ينجح العرب، وفي طليعتهم الفلسطينيون، في توظيف “الأوراق” التفاوضية التي يتوفرون عليها. والمقصود بذلك، في الحالة الراهنة، ورقة الأسرى تحديدا. وللإشارة، فإن انسداد الأفق العسكري، بالنسبة إلى جيش الدفاع الصهيوني، كانت تواكبه، بالمقابل، محاولات إسرائيلية، لانتزاع مكاسب تفاوضية، بمساعدة الوسيط الأمريكي “غير المحايد”.
إن صمود المقاومة، معززا بصمود الحاضنة الشعبية، أفشلا الخطط الإسرائيلية، سواء على صعيد الجبهة أم على صعيد المفاوضات. ولقد ظل محظورا على حكومة نتانياهو تحقيق أي مكسب من المفاوضات، بعد العجز عن تحقيق أية أهداف عسكرية، وضمنها تحرير الأسرى. ولم يكن الأمر سهلا على المفاوض الفلسطيني، تحت ضغوط القوة النيرانية الرهيبة، المسلطة على الغزيين من جهة، وتحت الضغوط الكثيفة للوسطاء من جهة ثانية. غير أن النصر، في الأخير، كان حليف المفاوض الفلسطيني المناور، الذي عرف كيف يسند صمود المقاوم الصابر في الجبهة.
يمكن القول إنها المرة الأولى التي تخسر فيها اسرائيل حرب المفاوضات خسرانا مبينا. ولعل الخوف كان قائما، في جميع مراحل التفاوض، من أن تنهزم المقاومة في المفاوضات، لهذا السبب أو ذاك. غير أنه في نهاية المطاف، استطاع المقاوم الفلسطيني أن يمرغ أنف جندي الاحتلال في وحل غزة، إلى درجة أن بدا الاستمرار في العدوان على سكانها بغير أفق ملموس، وبالأخص الفشل في تحقيق ما كان يسميه النتن ياهو “النصر المطلق”. وإلى أن يتم التدقيق في مراحل صفقة بايدن لإيقاف الحرب، وفي تفاصيل أقسامها وبنودها، يمكننا القول بانتصار الضحية على الجلاد، والدم على البندقية.. في المحصلة.
لقد كانت التكلفة البشرية باهظة على سكان غزة، زيادة على التكاليف الأخرى، ومنها البيئية والاقتصادية. نحن لا نناقش موضوع المقاومة المسلحة حاليا، من ناحية جدواها ومؤداها، في ظل القوة الغاشمة للعدو، وفي ظل التواطؤ الغربي- الصهيوني الفاضح، وفي ظل العجز العربي المطلق. غير أن الإقرار بنجاح المقاومة الحالي في الميدان، عسكريا وتفاوضيا، لا يمكن أن تشوبه شائبة، بعد ثمانية أشهر من العدوان الكاسح على غزة، دون أن يستطيع الكابينيت الحربي تحقيق أدنى هدف له، باستثناء قتل الأطفال والنساء والشيوخ .
من نجاحات المقاومة، حتى الآن، ضرب قوة الردع الصهيونية في مقتل. ما كان يحققه الجيش الإسرائيلي، من انتصارات على الجيوش العربية في السابق، ولى إلى غير رجعة. ففي مواجهة كتائب محدودة العدد والعدة، وفي رقعة جغرافية جد ضيقة، استطاعت المقاومة الصمود، وبالتالي الحؤول دون تمكين العدو من إنجاز أية أهداف استراتيجية. ولذلك، فالحكمة، بعد أن تبرد البنادق، ويحال النتن ياهو إلى المحاكمة في الداخل أو في الخارج، أن يحظى الفلسطينيون بدولتهم السيادية، وعاصمتها القدس الشريف. الانتصار الصهيوني المطلق تكسر على صخرة غزة، كما أن الترانسفير المبيت فشل على حدود رفح. ولم يعد بالإمكان إلا اعتقال النتن ياهو ووزير دفاعه غالنت، حالما يحلان بأي دولة حرة، وتقديهما إلى الجنائية الدولية.
لقد انتهت سردية صهيونية، وبدأت، على التو، سردية فلسطينية.