ماري آن سُلطانة المغرب الفرنسية (بقلم: د. عبد الدين حمروش)

بقلم: د. عبد الدين حمروش

  • من فوق:

   حين استضاف أحمد التونسي، قائد بولعوان، أنطوان سانت إكسبيري، الكاتب والطيّار الفرنسي، كان من واجب الضيافة أن يدعوه إلى جولة في أعظم مَعْلم تاريخي بالمنطقة: القصبة الإسماعيلية. في ذلك الفضاء الرحب، المُتراخي وسط سهل من سهول دكالة الفسيحة، لا بناء يظهر أنه يعلو على بناء القصبة، ذات الأسوار الضخمة، والباب السلطاني الفخم. كما كان من المحتمل أن يستفسر مُؤلِّف “القلعة” (القصبة) عن هوية صاحبه، الذي قُضِي أمرُه ببنائها عام 1710. بين هذا التاريخ وزيارة الكاتب نفسه خلال 1927، يكون قد انصرم قرنان وسبعة عشر عاما بالضبط.

طبيعي أن تظل القصبة مُحتفظة بتماسك بنائها وفخامته، في ثلاثينيات القرن الماضي، بالمقارنة مع ما هي الأحوال عليه، الآن، في 2024. حتى الطريق المُتفرِّعة إلى القصبة، من تلك الرئيسية القادمة من “حد ولاد فرج”، ربما تكون أفضل مما هي عليه اليوم. بالتجربة والعيان، ليس هناك ما يؤكد أن اليوم أفضل من أمس في مُعظم الأحوال.

الموقع المرتفع والبانورامي، المُشرف على مُنبسط فسيح أخضر، خلال فصل الربيع بخاصة، من شأنه أن يكون باعثا على استطابة الإقامة، من قِبَل طيار خبر الأعالي، ووجد فيها ما يذكي روح التأمل والتسامي لديه. كما أن التواء نهر أم الربيع، وانعطاف طريق جريانه إلى الجانب الأيسر، حيث تتنزّل الأدراج، الواحدة تلو الأخرى، حتى تكاد تلامس شاطئه، تدفع إلى تصور القصبة، في ربوتها المتهادية فوق، كأنها شبه جزيرة. ومثلما ظلت تتناقل عنه الألسنة، السلطان الأكحل، وهو المُولع الأكبر بالحريم، من بين مُعظم سلاطين المغرب، كان يشغل نفسه برؤية إحدى جواريه “تقضم” الدرجات، نزولا إلى حافة النهر.

وحسب ما ينقل إلينا مُؤلِّف “مازاغان، ذاكرات مُشارَكة”، الكاتب المصطفى اجماهري، عن أحد أقرباء إكسبيري اللاحقين، فإن الأخير تأكد لقاؤه ب “القايد” التونسي، ومن ثم ولادة كتابه، الذي لم يُكتب أن يكتمل تحريرُه: “القلعة” ( La Citadelle). وفي نظر الكاتب “الجديدي”، أيضا، أن اللقاء كان مدعاة إلى أن يُحصِّل الفرنسي، عبر القايد التونسي، معلومات عن القلعة، مُلهمة كتابه الأدبي الذي يلفُّه أكثر من سؤال. ارتاح إلى هدوء المكان، واستحسن اعتدال مناخه، واستطاب فلذات دواليه المُعرِّشة. وهو يتجول بين عرصات الكروم، التي ظلت تنطوي على أجود الأنبذة المغربية، المشهورة بنبيذ “بولعوان”، ما من شيء كان ليحول دون أن يأخذ الفرنسي “فكرة” عن مؤسس القصبة، الواقعة في وسط الطريق بين فاس ومراكش عصرئذ.

من قريب:

عُرف، عن السلطان الأكحل، شدةُ بأسه. ومن ذلك على وجه التمثيل، أن بطشه بأعدائه وخصومه لم يكن ليسلم منه حتى أقرب مُقربّيه. واحد من خيرة أبنائه، المتمرد، المسمى “محمد العالم” لبلوغه درجة الاجتهاد (وهو الذي صار الأحمق الجاهل، عند “الكنسوسي” مؤلِّف “العرمرم”، لتمرده على والده)، سيُترك عُرضة للتلاشي، بعد تقطيع أطرافه. كما أن والدته سيطولها الموت، اختناقا بين يدي السلطان الزوج، بحسب بعض الروايات، نتيجة وشاية بخيانة مزعومة، ساقتها ضدها “السلطانة زيدانة” (الساعية إلى أن يؤول الحكم إلى أحد أبنائها).

أما الأعداء من الأجانب، والمتمردون من القبائل، فقد أوغل فيهم قتلا وسلبا وسجنا. وقد اشتهر عند الأجانب، أنه السلطان المُتعطِّش للدماء. في “استقصا” الناصري، هناك رواية عن أمر السلطان قواده بجمع رؤوس القتلى، التي كانت تُنيف على اثني عشر ألف. أما بالنسبة إلى السجناء، ففي “العرمرم”، تقدير عن عدد الأسرى من “الكفّار” بنحو خمسة وعشرين ألفا، وعن عدد أهل الجرائم من قتلة الأرواح والمفسدين بنحو ثلاثين ألفا. في مقابل القتل والبطش والاعتقال، لم يكن لكتب التاريخ، مما وقفنا على ذكرها، أن تتجاهل الخلوص إلى مثل هاته النتيجة، التي عبّر عنها الكنسوسي أحسن تعبير ” تخرج المرأة والذميّ من وجدة إلى واد نون ولا يسالهما أحد من أين وإلى أين، مع الرخاء المفرط”.

غير أن مما لا يذكر به السلطان إلا خفيفا، بالمقارنة مع فظاعات السلطان الدموية، فضلُه العظيم في تحرير أكثر من ثغر ومدينة: العرائش، أصيلة، المعمورة وطنجة. وقد كان على مقربة من تحرير سبتة، لولا تململ الجيش، في آخر لحظة، من طول مدة حصار المدينة. وإذا كانت الأخيرة قد تمنّعت على التحرر، هي وشقيقتها مليلية إلى اليوم، فسيقيّض لحفيده، سيدي محمد بن عبد الله، تحرير ثغور ومدن أخرى. في مديح دولة السلطان إسماعيل العلوي، نظم الفقيه الأديب أبو عبد الله محمد بن عبد الله الجزولي قصيدة، بيِّن فيها التكليف الإلهي على النهوض بالمسؤولية السلطانية (موجودة في “نزهة الحادي” للإفراني). هذه بعض أبياتها:

مولايَ إسماعيل يا شمس الورى /// يا من جميعُ الكائنات فِدى لــهُ

ما أنت إلا سيف حقٍّ مُنتضـــــى /// الله ُمن دونِ الخليقــة سلّـــــــهُ

من لا يرى لك طاعةً فاللهُ قــــــدْ /// أعماهُ عن قصد الهوى وأضلّهُ

بالموازاة مع ذلك، يبدو أنه كان للسلطان الوقت الكافي ليعاشر عددا من حريمه، منذ أن أقبلت عليه السلطة، وهو في السادسة والعشرين، بعد وفاة أخيه المولى الرشيد. غزواته – تلك- في المخادع، لم تكن لتنقطع آناء الليل وأطراف النهار. وحتى لا تبدو المبالغة فوق ما يُحتمل، كان السلطان يغزو، بجيوشه الثلاثة الكبرى، في اليوم، من نصفه الأول، البلاد المتمردة أو غير الخاضعة. أما في اليوم نفسه، من نصفه الثاني، فإنه يغزو الجيوش ذاتها، لكن مما ضمته “لَمْحلاّتْ” من نسائه وجواريه.

إن عدد الأولاد من صُلبه، الذي قُدّر بالمئات، والذي تضاربت في حصره الآراء، إلى حد ذهاب بعضها إلى حد الخرافة، تبيِّن جانبا من حجم قوة السلطان. ولقد بلغ مجموع الولد، عند مُعاصره، الديبلوماسي الفرنسي، دومينيك بيسو، ألفا ومائة وواحدا وسبعين، ما يكشف عن طبيعة شخص “الشريف”. لم يكن هناك وقت فراغ ليتمّ إهداره، في ظل كثرة أنشطته وتنوعها. ولكن، وعلى الرغم من كل ذلك، فلعل مما اشتهر به الأمراء، يوم حضرت المنيّة والدهم، ما لخصه الوزير والفقيه محمد بن الحسن اليحمدي، جوابا عن استشارة السلطان في من يخلفه من أولاده، بقوله: “يا مولاي، لقد كلفتني أمرا عظيما، وأنا أقول الحق، إنه لا ولد لك تقلده أمر المسلمين. كان لك ثلاثة، المولى محرز، والمولى المأمون، والمولى محمد، فقبضهم الله إليه”.

بالإضافة إلى شدة الباس والبطش، والإكثار من الولد والنسل، تميّز السلطان بفضيلة الإعمار، عبر الدأب في البناء. سُمي بذلك، لكثرة ما بنى وأعلى، “السلطان البنّاء”. وفي رواية عن “صاحب البستان” (لأبي القاسم الزياني؟)، مُستعادة في “الاستقصا”، نقرأ شهادة، بالغت في تقدير ما بناه السلطان: “بل لو اجتمعت آثار دول ملوك الإسلام لرجح بها ما بناه السلطان الأعظم المولى إسماعيل رحمه الله”. وفي وصف حجم هوسه بالبناء، أنه “كلما أكمل قصرا أسس غيره” حسب الناصري أيضا. ومن المبالغة في تقدير ما بنى السلطان الأكحل، أن ما أُتِيَ على أنقاض ما شيّد من عمارة، خلال مائة سنة كاملة، لاستعماله في إعمار بلدان أخرى من المغرب، من بعده، لم يبلغ النصف منها بأي حال (أي الأنقاض).

  • من بعيد:

لم يكن هناك من هم أعظم مُلكا وسلطانا في غرب المتوسط من: إسماعيل العلوي ولويس الرابع عشر. فإضافة إلى العصر ذاته، الذي جمعهما تحت أحداثه ووقائعه، هناك الحكم المطلق الذي مارسه كلاهما، والولع بالنساء والجواري والخلائل. وقد سمح لهما العمر المديد، مُعززا بطول مدة الحكم (خمسة وخمسون للأول، واثنان وسبعون للثاني)، بأن يُرسِّخا حكمهما من جهة، ويطبعا تاريخ مرحلة بأحداث فاصلة من جهة أخرى (من القرنين السابع عشر والثامن عشر). وإذا كان حكم السلطان إسماعيل أطول زمنا، بالمقارنة مع غيره من ملوك المغرب وسلاطينه، حتى نعته أولاده بـ “الحيّ الدائم”، فإن حكم لويس يعدُّ الأطول، بدوره، بالمقارنة مع جميع الحكام في العالم.

“الملك الشمس”، تمكّن من أن يوطد حكمه الإلهي المُطلق، تحت شعار: “أنا الدولة، والدولة أنا”. وبخلاف إسماعيل، الذي قضى شطرا من حُكمه المديد يُخضع القبائل المنتفضة، أو يُحرر المدن الشاطئية المحتلة، فإن لويس شغل حكمه بخوض أكثر من حرب إقليمية وقارية. غير أن الفارق الجوهري، حيث كانت فرنسا تَستعجل دخول العهد الصناعي الجديد، هو أن مَلِكها لم يكن لِيفوِّت إحاطة نفسه بكبار العلماء والأدباء والفنانين، من أمثال جون باتيست لولي، موليير، راسين، كورني وغيرهم كثير. إنشاء الأكاديميات، في العلوم والهندسة والفنون، كان مجرد مؤشر على استعداد فرنسا للدخول إلى عصر جديد، ولو بعد حين.

سينتظر لويس الرابع عشر حفيده، الدوفين الأصغر لويس (دوق برغوندي)، ليخلِّف له وريث عرشه لويس الخامس عشر. أما المولى إسماعيل، وإن خلّف أكثر من ولد غير “صالح”، مع تسجيل دخولهم في صراعات دموية، من أجل الظفر بالعرش، دون السلطة الواقعة بأيدي جيش البخاري، فإن استقرار الدولة سينتظر، إلى حد ما، قدوم حفيده السلطان سيدي محمد بن عبد الله. بعد تحرير بعض المدن، وإن مع بقاء أخرى مُحتلة، سيظهر أن الموضوع الأكبر، بالنسبة إلى الدول السلطانية المُتعاقبة، من بعد، هو الحفاظ على استقلال البلاد. لقد بات ذلك ممكنا، خلال مراحل مُعينة، إلى أن حصل التسرُّب الأجنبي، بهذه الطريقة أو تلك، منذ أن تربّع على العرش السلطان عبد الرحمن بن هشام.

الحكم المُطلق باسم الإله (ثالث ثلاثة)، والولع بجميلات المحيط الملكي. هذان الضلعان البارزان، من سيرة سيّد فرنسا الأول، سيهيمنان على ما عداهما بالتأكيد. من زوجته الرسمية، الإسبانية “ماري تيريز”، سينحدر ملك فرنسا لويس الخامس عشر، وملك إسبانيا فيليب الخامس. أما خارج إطار زيجته الرسمية هاته، فسيقترن الملك لويس بأكثر من عشيقة وَلود: لويز دو لافالييه، مدام مونتسيب ومدام فونتوج. كل واحدة منهن، ستترك له أكثر من ولد، باستثناء العشيقة الأخيرة التي لم تُخلِّف أبناء أحياء. ظاهريا، لم يتجاوز “الملك الشمس” أربع نساء، ممن اقترن بهن، وولدن له. وكذلك، كان مع السلطان إسماعيل، الذي لم يتجاوز العدد أربعة نفسه، باستثناء ما ضمّه حريم المسبيّات والمحظيّات والجواري.

  • من أمام:

هل كان بحوزة القايد التونسي معلومات عن علاقة لويس الرابع عشر بالسلطان العلوي، يوم التقى الكاتب والطيار الفرنسي سانت إكسبيري؟ هل ذكر له، وهو يتجول به بين أبهاء القصبة وردهاتها، ثم ينحدر به إلى السجن الموحش في الطابق السفلي، ما كان يمتلئ به البلاط السلطاني من سفراء وقناصل؟ وبالمقابل، هل عرّج به إلى ذكر سفارة عبد الله بن عائشة لدى البلاط الإمبراطوري، وما شاهده من لقاءات واحتفالات أدبية وفنية في قصر فرساي؟ هل انتهى به إلى قصة إعجاب السفير المغربي بجمال ماري آن، وبذوقها الفني العالي، وبثقافتها الواسعة الرفيعة؟ هل أحاطه بتفاصيل الساعات، التي قضاها السفير مع سلطانه العلوي، وهو ينقل إليه إعجابه بدرّة تاج فرنسا: ابنته الأثيرة من عشيقته “دو لافالييه”، التي آلت بها الدوائر إلى أن تنتهي راهبة عابدة في دير؟ هل أعلمه كيف انتقلت عدوى الإعجاب إلى السلطان، إلى أن وقع في حبها، هو الآخر، وعن سماع؟ وهل في ذلك كان أدنى عجب أو مُبالغة؟ ألم يقل بشّار، شاعرنا الضرير، يوما:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقــة ///  والأذن تعشق قبل العين أحيانـــا

قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم /// الأذن كالعين تُؤتي القلب ما كانـا

سوى أن ما يقوله إسماعيل العلوي سيكون لأميرة، وليس إلى جارية على الإطلاق، مثل التي كان يخاطبها الشاعر العباسي؟؟ ما المانع من خِطبة ابن عائشة ماري آن لفائدة سيِّده، وقد أدرك بُعد شأوها عن شخصه ومقامه، وعن مرتبته قبطان بحر، ثم سفيرا لدى والدها؟؟

أميرة كونتي، محبوبة والدها، التي تهفو إليها الأبصار وتنشدّ، وتميل إليها الأعناق وتلتفّ، كلما مرق طيف عابر منها بالبلاط. لم يكن لينافسها، في حظوتها هاته، إلا ماريا تيريزا الإسبانية (الملكة)، ودوفينة فرنسا ماريا آنا (زوجة لويس الدوفين الأكبر)، ودوقة أورليان إليزابيث شارلوت من بالاتينات (زوجة فيليب الأول، الابن الأصغر للويس الثالث عشر)، وآن ماري وإليزابيث الأورليانية (ابنتا دوق أورليان)، ولويز فرانسواز (أختها غير الشقيقة زوجة لويس الثالث البوربوني). كان قصر لويس الرابع عشر يعجُّ بالأميرات الجميلات الحسناوات. وبحصول إحداهنّ على مهر أعلى، من هذا الأمير أو ذاك، كان بالإمكان أن يكون ذلك كافيا لاشتعال فتائل الغيرة والحسد.

ولدت ماري آن بقلعة فانسن في الثاني من أكتوبر 1666. ولأنها ابنة الملك من عشيقته دولافالييه، فسيتم إضفاء الشرعية عليها في14 مايو 1667. البنت المفضلة لدى أبيها، ستحوز أكثر من صفة: البوربونية، أميرة كونتي، دوقة لافالييه، دوقة فاوجو. تزوجت صغيرة من أمير كونتي، لويس أرماند الأول، سنة 1680. غير أن زواجها الفاشل لن يستمر طويلا، بحيث سيُكتب عليها التّرمّل سنة 1685. الأميرة الأرملة ماري، الشابة الجميلة الفنانة والمثقفة، ستكون موضوع طلب للزواج من شخصيتين كبيرتين في زمانها: فيليب دوق أنجو الذي سيغدو ملك إسبانيا من بعد، وسلطان المغرب المولى إسماعيل.

يمكن قراءة خِطبة السلطان لماري من منظور مصلحي، حرّكتْهُ الرغبة في تقوية العلاقات الديبلوماسية والعسكرية. ذلك أن السلطان لم يكن يفتقر إلى الحريم في قصوره وقصباته، على مختلف أشكاله وألوانه وجنسياته، ومنه الأجنبية مارية المُلقّبة بـ “العلْجة”. وعلى الرغم من التركيز على جمال ماري آن، في وصف السفير ابن عائشة لسيِّده، كما تناولت ذلك جُلّ الدراسات التي اهتمت بالموضوع، إلا أن البحث عن أسباب تقوية العلاقة الديبلوماسية، وتعزيز أواصر التعاون العسكري، يبدو الأجدر بالاهتمام من جهة السلطان.

الحديث عن تعلُّق قلب إسماعيل بماري آن، كما سعت إلى نقله أكثر من رواية، مُبالغ فيه كثيرا. وفي ما يتعلق بالجزء الكبير من القصة “الغرامية”، يظهر أن التركيز فيه عائد إلى الرواية الفرنسية بالدرجة الأولى. وقد شغل فيها الشعراء الفرنسيون حيِّزا منها، بناء على ما ننقله لهم من مقاطع، اعتمادا على ترجمة الشاعر والمترجم نصر الدين بوشقيف. كان حجم جمال ماري يقاس، في بُعد من أبعاده، بدرجة تأثيره ومدى مسافته. فعلاوة على مُرتادي البلاط الفرنسي، من أمراء ووزراء وديبلوماسيين ورجال تجارة ومال وفنّ، تعدّت الفتنة الحدود الفرنسية: إلى الإمبراطوريات البعيدة. في بعض الأحيان، كان الإطراء، مُصوّبا نحو جمال أميرة كونتي، ينزاح انزياحا، إلى حد أن يشوبه تجاوز. بمناسبة طلب المولى إسماعيل يد ماري، كان من المُتوقع أن تعلو مثل هذه النبرة الحضارية المُتعالية:

جمالك، أميرتي العظيمة

يحمل السمات التي تصيب

حتى الأماكن المتوحشة.

إفريقيا معك تستسلم

والغزوات من عيونك

تنأى أبعد من تلك التي لهيركيل

وإن كنّا نجنح إلى أن الرغبة في الاقتران بالأميرة، كانت دوافعها مصلحية في المقام الأول، فهل القصة الغرامية “المحبوكة” باتت خلوا من كل تأثير لجمال ماري آن، ورقيّ شخصيتها؟ عن هذا الجمال الملكي، الذي شهد بقدره مُعظم من قابلها من أدباء العصر، يمكن أن نجد له صدى في ما تمّ نقله عن “الكومتيسة دو كايلوس” في “ذكرياتــ” ـها: “الجميلة مثل مدام دو فونطانج، الجذابة مثل أمّها، بقدر هامة الملك والدها وهيأْته”.

ما قالته دوكايلوس عن ماري آن، مجرد “بروفة توصيفية” واقعية وبسيطة. حين سيصير الموضوع بين أيدي الأدباء، سيأخذ الوصف أقصى درجات الحبكة والمبالغة. التمثيل الأسطوري، في إطار استحضار الآلهة الرومانية، يشكل الوسيلة إلى ذلك. ومما يمكن أن نقرأ، هنا، أبياتا للشاعر شيرون (C .J.B. Chéron):

لمن سواك ايتها الأميرة الفاضلة

يمكنني إهداء معبد الفضيلة هذا؟

فاتنة جاذبيتك تزين حكمتك

وبعطفك تزينينها أكثر

من “جينو”. من “بلاص” لديك الجو والمهارة

تعيشين كـ “ديان” وتفتنين كـ “فينوس”.

الأديب جون دو لافونتين، أحد كبار أدباء العصر، سيترك بصمته، أيضا، وهو يتناول جمال ماري آن بالوصف:

الإلهة كونتي في حلمي ظهرت

ظننت أنها من أولمبوس في الأسفل نزلت

تنشر للعيون عالما من الجاذبية

وتهدد القلوب عند أدنى خطوطها

ابنة “جوبتر” صرخت عند رؤيتها

سنتعرّف قريبا من أي دم أصلك

الجو، المحمل، كومة من الجمال.

ويستمر لافونتين في التتبع إلى أن يقول:

الكل يتفوق عند كونتي، وكل واحد يتنازل لها عن السلاح

حضورها في كل مقال يقال دائما عنه

ها هي فتاة المحبات

لديها الأناقة والجاذبية

لا نقول أقل ونحن نتعجب من جوها

هي بنت جوبتر (…)

ظهرت لي كونتي آنذاك ألف مرة أخفّ

من الحورية التي ترقص في الغابة

تبدو كأنها تحلِّق في الأجواء بطريقة

الإلهات اللائي يسرن في هوميروس

وفي مواضع شعرية أخرى، ظل المجال ينفسح كثيرا، لأن تبرز صفات من قبيل: الحكمة، القلب العظيم، الفخر النبيل، الإلهام، المواهب النادرة، إلخ. هكذا، كان من شأن ابن عائشة، وهو المفتون المغربي الأول بماري آن، أن يقدّمها مادحا تحت تأثير: جمال أنثوي فاتن. لم يكن السفير مُبالغا، حين كان يذكر كل ذلك لسيِّده السلطان، وقد انطبع سحر الأميرة عليه، تماما مثلما انطبق على أدباء عصره. فهل تأثر المولى إسماعيل بجمال الأرملة الشابة الفاتنة، ما دفعه إلى خطبتها فعلا؟ أم الأمر لا يعدو كونه سعيا إلى تحصيل مصالح ديبلوماسية وعسكرية في الأفق؟

السمعة الطيبة لجمال ماري، والمُجمع عليها من مُختلف الأطراف، لا تدع مجالا للشك في وقوع السلطان العلوي تحت تأثيرها. غير أن تحصيل المصالح، في ثنايا ذلك، لا يمكن استبعاده بأي حال، من قبَل سياسي وعسكري، كان يواجه أكثر من تحد داخلي وخارجي. جميلات فرساي كثيرات، ومن ذرية لويس الرابع وعائلته، إلا أن “مبضع” السفير ابن عائشة كان الوصف فيه مُسلّطا على ماري بالذات، دون غيرها. هي التي أثارته بسحرها وفنها وشخصيتها أولا، وأثارته تعليقات رجالات العصر، من أدباء وفنانين ووزراء وديبلوماسيين وعسكريين، ثانيا.

  • من داخل:

    هل الجمال هو كل ما كانت تحوزه أميرة كونتي؟ في دراسة بحثية مُسهبة، تحت عنوان “صورة ماري آن دو بوربون في ضوء الأسطورة”، يذهب ((Thomas Vernet إلى أنه، بجانب جمال ماري الباهر، كانت هناك المواهب والأذواق الفنية، وبخاصة الموسيقية، التي جعلت من هذه الأميرة أحد الوجوه الأرستقراطية المُحبَّبة، خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر. ويرجع شغفها بالأدب، في إطار التربية التي استفادت منها، إلى علاقتها بالدّوفينة. ويستدل الباحث على ذلك برسم أولي مُنجز، من قِبل ف. دو تروي (f .deTroy)، يتضح فيه جلوس الأميرة على كرسي قُبالة مكتبة مُتوارية خلف أقمشة.

كانت البوربونة الشابّة موضوع أحاديث البلاطات والصالونات في عصرها. وليس من المستغرب أن تستبقها صورتها المرسومة، من قِبل ضيوف قصر أبيها بعناية، إلى خارج فرنسا وأوروبا، حتى تُحلق في أجواء شمال إفريقيا “شبه المتوحشة”. إذاً، كيف سيستقبل السلطان العلوي أميرة كونتي، في قصوره الغاصة بالحريم من مختلف الجنسيات والألوان؟ وكيف ستتقبّل، وهي ابنة الملك الشمس، ذات الجمال والثقافة الرفيعة، أن تكون مجرد رقم من أرقام حريم السلطان، الموصوف أوروبيا بـ “المتعطش للدماء”؟

في رسالة الخِطبة، المُحررة من قِبَل ابن عائشة، من ضمن حقوق أميرة كونتي أن تحتفظ بدينها، على عقيدة التثليث المسيحية. كما أن من ضمن حقوقها، أن تلتحق بصفوة نساء السلطان، المعدودات في أربع: خناثة بنت بكار المغافرية (والدة السلطان المولى عبد الله، ومُربية حفيدها سيدي محمد بن عبد الله)، حليمة السفيانية (والدة السلطان محمد الثاني والسلطان زيدان الصغير)، أمّ العزّ التبّاع، وعائشة بنت مبارك الرحماني البربوشي، الشهيرة بالسلطانة زيدانة (والدة السلطان علي زين العابدين).

غير أن ما لا يمكن ضمانُه لأميرة كونتي، هو الوجاهة على زوجات السلطان. فباستثناء أنها ابنة ملك فرنسا، فلا ثقافتها الأوروبية ستفيدها، ولا حتى جمالها. ذلك أن قصر السلطان يضم، داخل غرفه وباحاته، أرفع الزوجات جمالا وأدبا وعلما وثقافة. والزوجات المقصودات، هنّ:

– الأولى، بنت بكار المغافرية، التي وصفها الناصري بأنها ” ذات جمال”، والتي كانت أديبة، فقيهة، مستشارة ووزيرة (لدى ابنها السلطان المولى عبد الله)؛

– الثانية، حليمة السفيانية التي ظلت تتولى الإشراف على رواتب الجيش وعلى هدايا الإشراف، وصلات العلماء طيلة العام؛

– الثالثة، عائشة بنت مبارك (الشهيرة بالسلطانة زيدانة ومولاة الدار)، التي كانت تتولى تأمين حياة السلطان، إضافة إلى أنها كانت تمتلك نفوذا سياسيا كبيرا، حتى استحقت لقب “إمبراطورة المغرب”، الذي أطلقه عيها الأوروبيون.

– الرابعة، أم العز التبّاع التي كانت تضطلع بدور مهم في إعداد اتفاقيات السلام والتجارة مع بريطانيا العظمى، سنة 1722.

أربع زوجات (أمهات السلاطين والأمراء)، كُنّ على دراية بتدبير شؤون الحكم، وما اقتضاه من علم بأصول الديبلوماسية، وما استلزمه من إتقان للغات الأجنبية (كما هو الحال بالنسبة إلى أمّ العزّ التي كانت تتكلم الإنجليزية).

هل كان باستطاعة ماري آن أن تُحدث فرقا كبيرا، باستثناء أنها ابنة لويس الرابع عشر، وما يمكن أن تُرتِّبه هذه القرابة لزوجها السلطان المفترض؟ لم تتزوج ماري آن منذ أن ترمّلت، بحكم فشل زواجها من أمير كونتي، وافتراق فراشهما بعد ليلتهما الأولى الخائبة. ولَدٌ واحد من السلطان الأكحل، بعد زواج ملكي مغربي صميم، كان من شأنه أن يُوسّع من شجرة العلوي- بوربون.

البوربونيون انتشروا في أكثر من بلد أوروبي. غير أن وجودهم ظل مُنحصرا في القارة العجوز. لكن، ماذا لو انتقلت سلالتهم إلى الضفة الجنوبية؟ لم يحدث أن كان هناك صفاء في “الدم” بأي مكان، بالطبيعة والبديهة والواقع. كما أن التاريخ ظل يؤكد أن المغرب، في كافة عصوره وحِقبه، من هذه الناحية، لم ينفكّ يُشكِّل مُلتقى نشيطا للشعوب المختلفة. ما يسمى حروب الاسترداد المسيحية، وفي سياق طرد الأوروبيين المتحولين إلى الإسلام، ومعهم العرب والأمازيغ واليهود، بالطبع، مجرد مثال على هذا الامتزاج، الإثني والثقافي الغني والمُبدع. فلم لا يحصل تتويجه، من على رأس الهرم، عبر التقرب بالمُصاهرة، بين أسرتين حاكمتين في غرب المتوسط. فبالإضافة إلى المستشارة الوزيرة خناثة (المدعوة تحبُّبا “خوينثي” وأوروبيا “كوينتا”)، والسلطانة زيدانة، مثلا، ما الذي يحول دون أن يكون اللقب، أيضا، من نصيب “السلطانة ماري آن”؟؟

في جميع القصور، كانت الغرف والباحات تنطوي على حريم أجنبي. وإلى الأُسَر السلطانية، ومنها العلوية نفسها، التحقت نساء أجنبيات بزوجات السلطان. الكورسيكية “الضاوية”، المسماة قيد ولادتها (Davia Franceschini)، زوجة السلطان محمد بن عبد الله، ووالدة السلطان المولى اليزيد والأمير مَسلمة (سلامة)، مجرد اسم في الواجهة. إلا أن ماري آن تختلف عن هذه بكونها ابنة ملك فرنسا العظيم. وبحسب نظام وراثة العرش في عدد من دول أوروبا، فقد سُمح للويس الرابع عشر بالتدخُّل، عسكريا، في أكثر من بلد. هل كان الاعتذار عن مُصاهرة إسماعيل العلوي، عبر الزواج من ماري، لاعتبارات دينية وثقافية، تندرج في إطار هذه الخصوصية الأوربية أيضا؟

في التاريخ المغربي، كانت الاستعانة بالملوك الأجانب أمرا حاصلا، حين كانت تندلع صراعات الأمراء حول وراثة العرش. واقعة استعانة محمد المتوكل السعدي، ضد عمّيْه عبد الملك وأحمد المنصور، وما جرى في معركة وادي المخازن ومن بعدها، ظلت شاهدة على التدخل الأجنبي في المملكة. إذاً، كيف يصير الحال، حين يكون هناك أمير مُطالب بعرش، لديه أخوال من ملوك أوروبا؟ هل كان القرار بالاعتذار، من قِبَل لويس، محسوبا، بحكم صعوبة انتقال البوربونيين إلى المغرب، مثلما كان انتقالهم إلى إسبانيا، واستمرار مَلَكيّتهم فيها إلى اليوم، مع الملك الحالي فيليب السادس؟

يمكن تصور أكثر من سيناريو لدخول ماري آن دو بوربون إلى القصر الإسماعيلي. الجميلة الرشيقة، الشغوفة بالموسيقى والرقص، البالغة الثانية والثلاثين من عمرها، كان بإمكانها أن تُيَسِّر تدابير عقد تحالف عسكري- ديبلوماسي بين المملكتين. هل كان للأمر أن ينتهي عند هذا الحد؟ ومع ذلك، فالبحر المتوسط، بضفّتيْه الشمالية والجنوبية، وعلى الرغم من كل أسباب التوجس والتوتر والصراع، لم يكن ليغلق دونه الأبواب. المسافرون والمهاجرون، تجارا ومغامرين ومطرودين ومنفيّين، لم ينقطع توافدهم إلى هذه الضفة أو تلك، في الشمال أو الجنوب، على مرّ الأزمان.

من بَعد:

  قادما من الدار البيضاء إلى قصبة بولعوان، وبعد أن توقّف سانت إكسبيري ببيت أحد معارفه (le baron de Leusse ARTHUR)، عند مدخل الجديدة، كان من المُبرمج أن يقوم بزيارة إلى القلعة البرتغالية. هذا ما يُطالعنا به صاحب “مازاغان” المذكور، مرة أخرى، بنوع من الترتيب الكرونولوجي الحريص. يمكن تأطير الزيارة في ما تسمح تسميته السياحة الثقافية. كما أنه من الطبيعي أن يكون قد سمع عن الحي البرتغالي وقلعته، وما جرى فيهما من أحداث تاريخية. أليس يكون الأمر ذاته، بالنسبة إلى زيارة القصبة الإسماعيلية، أيضا، حيث الوقائع التاريخية لا تقل عن الحي البرتغالي دلالة ورمزية؟

في الواقع، لا يحمل كتاب إكسبيري القلعة/ القصبة من المكان غير الاسم. ذلك أن الكاتب ظل مُنشغلا بتدوين تأملات تجريدية أكثر من سرود واقعية. القلعة، المكان الأثري المُفعم بالتاريخ، آلت إلى مجرد “إطار عام”. في أثناء تحرير الكتاب، ظل أنطوان يمارس هواية/ مهنة التحليق عاليا، بعيدا عن كل ما من شأنه أن يربطه بالأرض. في فقرة مُعبِّرة عن سمت الكاتب في الحياة، وأسلوبه في الكتابة، نقرأ لمصطفى اجماهري في سياق الاستنتاج الحاسم: “الطائرة، بالنسبة إليه، وسيلة للمعرفة التي تنتزعه من المادية الخانقة للأرض، والتي تقذف به في أتون السكون الغامض للسماوات”.