الهابنينغ السياسي (بقلم: أيوب العياسي)

لايمكن لهذه الكفاءات المفترضة ولهؤلاء السياسيين تحويل تدبير الشأن العام إلى هابنينغ مفتوح على الهواء الطلق. ما ينتظره منكم المواطنون، أيها السادة، هو تحقيق عدالة إجتماعية تضمن لهم العيش الكريم. وتمكينهم من الخدمات العمومية الأساسية للتمتع بمواطنتهم. لا يهمنا كثيرا شريط صوركم هنا وهناك والمواقع الإلكترونية التي تطلقونها لهذا المشروع أو ذاك! والتي تحولون بها السياسة رويدا رويدا إلى علامات إشهارية مسجلة في دواوينكم. وعلى الأرائك الوتيرة التي تجلسون عليها، حد أن يخال لكم أنها دائمة.

البلاد في حاجة إلى رجال دولة حقيقيين يفكرون في حاضر ومستقبل العباد. وليس سياسيين ينحصر عملهم في تكتيك يرتبط بالإنتخابات القادمة فحسب. أتذكر اللغط الذي عرفه الفضاء العام، من جراء تسريب لائحة للمستفيدين من الريع المتعلق ب”أراضي خدام الدولة”. وقد كانت تبدو العبارة كأنها تحمل تواطؤا بين هؤلاء والدولة في معناها السلطوي، ضدا على مصلحة المواطنين. غير أنه تبدى الآن أن الدولة ومعها الشعب، في الحاجة إلى خدام حقيقيين يتفانون في العمل من أجل الصالح العام، ولا يعدون مدة الإنتذاب بما يمكن جلبه فيها من مصالح واستفادة شخصية، في المقابل يلهون المواطنين بما لذ وطاب من الوعود اللازوردية.

هل تعتقدون أن هذا الشعب يستسيغ كل ما تسوقونه له من سراب؟ ألا يرعبكم صمته وعدم تصويته في الإستحقاقات الإنتخابية وعدم انخراطه في المؤسسات الحزبية؟ هل وصلنا حقا إلى حد الكاكيستوقراطية؟ وصار الأسوأ والأقل كفاءة ومنعدميها ينالون التشجيع والترقي، لأنهم سيكونون أكثر وفاء ل “مسامر الميدة” و لوبيات الفساد والمحسوبية والزبونية!!

حين كانت للكوميدي الشاب باسو الجرأة على التطرق خارج سرب القنوات التلفزية العمومية لنموذج من “السماسرة” الذين يمتهنون التدخلات والبحث عن “الهبزة” أو “الهوتة” وتسهيل الطريق للممارسات الفاسدة وتعبيدها أمامها، ردد بعض النقاد الفايسبوكيين أن هذا الكوميدي لم يأتي بشيء جديد. وقال ما نقرأه على الجرائد وبالتدوينات وما نعرفه حق معرفة في معيشنا اليومي.

إن أساس الفن يكمن في تلك المرآة التي يضعها أمامنا، فنتمثل أنفسنا فيها ونرى عواطف الخوف والشفقة تغمرنا، من جراء تفاعلنا معها. هذا فيما يخص التراجيديا طبعا، أما الكوميديا فتعتمد التضخيم والمفارقة وسوء الفهم بين الشخصيات المثير للضحك لدى الجمهور، الذي يسبق الشخصيات الأقل نباهة في فهمه للمقالب التي ستتعرض إليها، فيضحك. وهنا سيقول لنا الناقد الأكاديمي النحرير أن كل هذا لم يتحقق بالضرورة لدى الكوميدي باسو في سلسلته “سي الكالة” التي تحقق نجاحا باهرا على الأنترنيت، ما كان  ليتأتى للكوميدي المبدع على التلفزيون. لأنه بكل بساطة ما كان ليتمكن من أن يجسد بكل جرأة ما جسده على منصات الأنترنيت. وهو ما ذكر به صديق صحفي وفنان حين أعاد نشر سلسلة تلفزيونية من أرشيف باسو وقارنها مع نجاح سلسلته المتألقة حاليا. مع أن لا مقارنة مع وجود فارق!

ولنعود لمعايير الكوميديا والتراجيديا ولنقاد الفايسبوك. ما لا يخفى عليهم وكان يجب استحضاره حين قالو أن باسو لم يأتي بشيء خارق على مستوى المعالجة الكوميدية، أن واقعنا تراجيكوميدي. وأننا في مرحلة لنا فيها فقط حاجة ماسة لنرى وجهنا في المرآة. ونتوقف عند عيوبه، لننفجر ضحكا وليتحقق لدينا التطهير النفسي. ونحن نحس أن هذا المسكوت عنه الذي نعرفه جميعا، صار ممكنا أن ينقل للملأ عبر الكوميديا. وإذا لم ينقل عبر الكوميديا، هل نعتقد أنه في وقتنا الراهن سينقل عبرنشرات الأخبار الرسمية؟

لقد أبدع الفنان الساخر أحمد السنوسي “بزيز” قبل عقود خلت، حين أطلق على أحد عروضه الساخرة وأشرطته الذائعة الصيت قبل زمن اليوتوب عنوان: “نشرة الأخبار”. كان هذا قبل أن تنتقل النشرات الإخبارية، على المستوى العالمي، إلى شكل إحتفالي قد نرى فيه فرقة موسيقية تعزف في البلاتو وفنانا يغني، تماما كما نرى أخبار الحروب والدمار… أي أن “بزيز” كان مستشرفا ككل فنان حقيقي، هذا قبل أن يختفي عن الأنظار، بعدما طالت مطالبته بجبر الضرر التلفزيوني من خلال حديثه في برنامج مباشر على التلفزيون المغربي الذي يتهمه بمنعه، ليحكي قصته مع هذا المنع. وربما قد يكون وصل في هذه الأيام إلى تلك المرحلة التي وصلها صديقه النجم الطيب الصديقي رحمه الله في آخر أيامه، حين لم يعد يطق أن يسمع حديثا عن المسرح والمسرحيين، بعدما أعطى كل حياته للمسرح.

وطال الزمن أم قصر سيأتي يوم يعي فيه السياسيون ومسؤولو الدولة أن هناك حاجة عميقة للتلفزيون ووسائل الإعلام الرسمية لتأدية دورها التربوي والتثقيفي- التوعوي أمام انتشار قناة لكل مواطن، يجد الأطفال والشباب أنفسهم أمام تسويق أفكار يمكنها أن تنخر المجتمع. وهنا لا عيب في أن يقوم الإعلام الرسمي بالبروباكوندا التي يريد ولكن بشكل أنيق ومنهجي يحافظ على هوية المجتمع وقيمه وأمنه الثقافي. نحن حقا في حاجة إلى “خدام الدولة” بدل هذا الهابنينغ السياسي الذي لا يخدم إلا أهواء سياسيين مغمورين ورغبتهم في نجومية زائلة.