إنها الانتماء الذي يورث المال، السلطة، العلم وخلود الذكر. إنها الكنز الذي لا يفنى، الذي يتوارثه الأبناء كابرا عن كابر، عبر تعاقب العصور. إنها الأسرة العائلة، محضن من هو مجرد من كل حظ في الدنيا. هل كان ليوسف بن تاشفين أن يتربّع، مثلا، على عرش الإمارة في مراكش، ومن بعدُ أن يمتدّ حكمه في أصقاع اتسعت جغرافياتها وبيئاتها ومناخاتها، لولا مُصاهرته لأحد شيوخ كبرى القبائل الصنهاجية؟ هل كانت تنفعه نباهته العسكرية في شيء، لولا زواجه من السيدة الجميلة اللبيبة، ذات الأرومة القبلية القوية والممتدة، زينب النفزاوية؟
إن الانحدار من العائلة ذات المجد (أي مجد)، أو الانتساب إليها عبر المصاهرة، يورثان السلطة والجاه. لا سبيل دونهما لكل ساع إلى عُلا حتى اليوم، وإن الصورة باتت أخفّ في الوقت الحالي. الخصال الشخصية الرفيعة، من العلم والشجاعة والحكمة وحسن التدبير، قد لا تكون كافية لرفع أحدهم إلى درجة الحظوة بين الناس.
وإن كنا ننتقل إلى “مجتمع” الحداثة، راغبين مؤمنين أم مكرهين خانعين، إلا أن لسلطة “القبيلة”، مُختزلة في سلطة “العائلة”، اليوم، بقية من “كلمة” لتقولها لكل مُتطلع إلى مجد. هل كففنا، في مغربنا الحديث، عن الانتباه إلى رنين أسماء بعض الأسر، من قبل بنسودة، بنشقرون، عواد، بنخضرا، بنزيدان، الخطيب، الفاسي، إلخ؟ لقد بلغ الاحتفاء بالعائلات المغربية، عبر الاتناء بالتأريخ لشجرات أنسابها وامتداداتها الجغرافية، في إفريقيا جنوب الصحراء والمشرق العربي، أن قُيّض لآل بنسودة، مثلا، تأليف كتاب باسمهم العائلي، تحت عنوان “الحلل الممدودة في مآثر بني سودة”.
وبالنظر إلى أهمية العائلة، انبرى واحد من آل سودة، وهو عبد السلام بنسودة، إلى تأليف كتاب سماه “إزالة الالتباس عن عائلات سكان مدينة فاس”. كما أن المس بنسب عائلة ما، بالمقابل، قد يمثل شرارة لنشوب معركة حامية بين الرد والرد المضاد. ويمكن الاستشهاد بما حصل لعائلة “كنون” مع عبد الحفيظ الفاسي، الذي شكك في نسبهم في فهرس شيوخه “المدهش المطرب”، ما استلزم الرد من عميد الكنونيين، محمد بن المدني كنون، من خلال تأليف كتاب “الدرر المكنونة في النسبة الشريفة المصونة”. وفي إثره، انبرى تلميذ الشيخ محمد كنون، المسمى محمد بن المصطفى المشرفي، إلى وضع كتاب آخر لذات الأمر “الدر المكنون في التعريف بالشيخ كنون”.
لقد وُضعت دراسات وبحوث حول سلطة العائلات في المغرب. وإن كانت هذه السلطة، ذات الأوجه المتعددة، من مشترك الإرث الثقافي التقليدي القديم، إلا أنها صارت تُقرن بمصطلح ليبرالي حديث، وهو “النخبة”. فعن القرابات الأسرية، داخل الجيش في المغرب، ألف الأستاذ محمد شقير كتابا دالا، مُستعملا مصطلح “النخبة”، تحت عنوان “النخبة العسكرية وامتيازات السلطة بالمغرب”. ومما يجدر الاستهلال به، توطئة لما نحن فيه من حديث، قوله: “لذا، فإن الزيجات ضمن النخب العسكرية التي قادت وتحكمت في المسار السياسي للمغرب في العديد من منعطفاته التاريخية قد لعبت دورا أساسيا في صعود قواد وأمراء عسكريين إلى الحكم”.
أما الأستاذ حسن قرنفل، الذي استعمل “النخبة” في أكثر من كتاب، فسيعود (في 2007) ليوظف “كلمة” قريبة من المصطلح المذكور، أي “أهل” في كتابه “أهل فاس: المال والسياسة”. اسم المدينة، فاس، مثلا، قد يصير اسما جامعا/ اسم الأسماء أحيانا (الاسم الجامع الذي يختزل كافة العائلات الفاسية). ونظير “الفاسي”، قد نجد “التطواني” اسما دالا على كل العائلات التطوانية، ومنها الوافدة من خارج تطوان، من قبيل عائلة “الفقيه التطواني”، تلك المنحدرة من منطقة الشاوية.
والملاحظ في العائلات العريقة، أن مجال سلطتها كان يتجاوز الوزارة والإدارة والعلم والأدب. فبحسب طبيعة أصول الثقافة التقليدية السائدة، فالرجل الواحد من الأسرة الواحدة تجده مضطلعا بممارسة أكثر من مجال ثقافي وصناعي وإداري. ولا أدل على ذلك من استعمال مصطلح “الفقيه”، الذي ظل يعني لقبه الجمع بين عدة أمور، في مجالي الدين والدنيا. ولن تتغير الصفة المتعددة للفقيه إلا في العصر الحديث، لما بُعيد الاستقلال، بشكل لافت. فتبعا لانتشار التعليم العصري، ستتغير البنية التعليمية، وبالتالي تعددية الفقيه/ العالم/ القاضي، إلى بنية جديدة، سيهيمن عليها البعد التخصصي. وفي إطار هذا الجديد المستحدث، ستظهر توجهات علمية طارئة، كان من نتائجها اتجاه العائلات العريقة نحو توجيه أبنائها إلى طب الجراحة والهندسة المدنية (مثلا).
لقد كان من خبرات أبناء العائلات التقليدية، إضافة إلى القضاء والإمامة، والحسبة، وإلقاء الدروس (إلخ)، قعودهم للتأليف في الأدب، شعرا ونثرا ونقدا وتاريخا. وإذا كان اتساع العائلات التقليدية المُتعلمة ظاهرا في المدن العريقة، مثل فاس وتطوان وطنجة وسلا والرباط، فإن عائلات في مناطق أخرى ستحظى بنصيب من السلطة العلمية والإدارية، في مراكش وأحوازها، وفي سوس بخاصة، حتى استحقت صفة “العالمة” (وإن بصورة أخفّ).
من أصول الوراثة، لدى الأسر العريقة، أن يرث الابن عن أبيه القيادة أو القضاء (مثلا). وبالموازاة مع هاتين الوظيفتين، لم يكن يخفى التفرغ لقرض الشعر، تحقيقا لصفة العالِمية وتحصيلا. وأعتقد أن لهذا المعطى، سينشأ أدب مغربي “فاتر” في معظمه، باستثناءات قليلة هنا وهناك. هذا الأدب هو أقرب إلى عقلية الفقهاء وسمتهم من جهة، وأبعد من شخصية الأديب وحرارة عاطفته وخياله من جهة أخرى. عن هامشية التفرغ للأدب، من قبل أعلام العائلات التقليدية، قال العلامة عبد الله كنون في مذكراته: ” وأما الأدب، فقد كان تعاطيه هواية”. ولعل مما تعنيه “الهواية” هنا، أنها لا تخرج عن إطار قلة العناية والتفرغ. العلوم الشرعية، من حديث وتفسير وفقه، حظيت بالنصيب الأوفر من جهود آل كنون. حتى السلطة، عبر شغل أحدهم منصب “قاض” أو “عامل”، لم تكن لتستأثر بِنَهَم رجال العائلة إلى اكتساب العلوم، وتدريسها في الجوامع. والمفارقة أن العلامة الشهير، عبد الله كنون، الذي عبّر عن هامشية الأدب لديه، سيخلد ذكره، دون ما صنّف من كتب، مُؤلّفُه عن الأدب المغربي في مختلف عصوره، الموضوع تحت عنوان: “النبوغ المغربي في الأدب العربي”.
يمكن التمثيل للقرابة العلمية، التي توارثها الأبناء والأحفاد عن الآباء والأجداد، ببيت كنون. أما عبد الله كنون، وهو درة تاج الأسرة، فقد اكتسب “شرفا” آخر، عبر مصاهرة آل بني تاويت الطنجيين، في شخص الفقيه محمد بن تاويت الطنجي. حضور المرأة العالمة، في ظل البيئة التقليدية السائدة، لم يكن ليبرز إلا في حالات نادرة. وعن هذا الوضع، الذي كان للمرأة، قال عبد الله كنون في “أزهار برية”: “ظاهرة غريبة في أدبنا الحديث يلاحظها القارئ والناقد معا، وهي عدم مساهمة العنصر النسوي في إنتاجه الثقافي”.
وكلما تقدم المغرب نحو الاستقلال، بموازاة مع توسع التعليم العصري، سيبدأ بروز المرأة المغربية في مجالات عدة، ومنها مجال الأدب بالتحديد. الروائية خناثة بنونة الفاسية، ومليكة العاصمي المراكشية، مثالان مُعاصران لطبيعة الطفرة الحاصلة في المجتمع. وفي إطار القرابة الأدبية، المُكرَّسة بين الذكور داخل العائلة الواحدة (بين الابن وأبيه وعمه وابن عمه وجده وخاله، إلخ)، بتنا نجد للـ”بنت” موقعا ضمن هذا الإطار. الشاعرة مليكة العاصمي، هي ابنة لأخ الشاعر عبد القادر حسن.
ابتداء من السبعينيات، سيحدث “انفجار” في طبيعة حضور المرأة الكاتبة، عددا ونوعا. والملاحظ أن القرابة، التي يمكن تلمُّسها، في هذا الإطار، هي من جنس: علاقة زوج كاتب بزوجة كاتبة. غير أن انخراط المرأة في الكتابة الأدبية، كما ينبغي أن يُسجل، يحصل بالاعتبار الشخصي المحض، لا بالاعتبار الذي يجعلها زوجة لكاتب. ومع ذلك، فإن وفرة متصاعدة في الكاتبات، المُقترنات بكُتاب وأدباء، يستدعي الانتباه. الأمر يحتاج إلى بحث سوسيولوجي مُعمّق. ولعل أقصى ما نستطيعه، في مقامنا هذا، سوق ثلاث ملاحظات:
– كاتبات رسّخن حضورهن مُبكِّرا (أي قبل الاقتران). ومن تلك المجموعة، بالإمكان تسجيل اسمي خناثة بنونة ومليكة العاصمي. في ما يتصل بالأولى، فجميعنا يعرف نضاليتها في نيل حظها من التعليم من جهة، وخوضها غمار الكتابة في سن متقدم من الشباب من جهة ثانية، والتزامها الأدبي بنصرة القضايا الوطنية والقومية من جهة ثالثة،
– كاتبات لم يثبت حضورهن إلا متأخرا (أي بعد الاقتران). ومن شأن المهتمّ تفسير التأخر، الحاصل في هذا الإطار، بكونه مُرتبطا بزمن الطبع والنشر (في حالات معينة لا أقلّ ولا أكثر). كما أن الاقتران برجال كُتاب، من ناحية أخرى، يمكن أن يكون مدعاة لتفتُّق مواهبهن الإبداعية (التي كانت حاصلة في مستوى القوة قبلا)،
– كاتبات رسّخن نوعية في حضورهن، في مقابل أخريات لم يتمكن من ذلك، ومن ثم ظل حضورهن دائرا في فلك أزواجهن/ الكُتّاب. كما يمكن تسجيل أن هناك كاتبات استطعن أن “يغطين” على حضور أزواجهن الكُتاب، على الأقل من حيث النشر، المشاركة في الملتقيات الأدبية، والحضور الإعلامي في مختلف وسائل التواصل.
إن القرابات الأدبية، بين الكاتبات والكُتاب، تستمر في التعدد والتنوع. غير أنها تظل دون مستوى القرابة الأدبية، التي يظل محورها الرجال/ الأقارب من الكُتّاب. وإن شئنا تحديد حجم القرابة فيها (أي بين كاتبة- كاتب)، فإن الغالب فيها ينتهي لصالح الكاتبة (الزوجة)- الكاتب (الزوج). ولعل خير مثال، يحسن تقديمه، هنا، هو علاقة الشاعرة ثريا السقاط بزوجها محمد الوديع الآسفي. كما أن عائلة الوديع، بتعدد أعضائها الكُتاب، يجدر أخذها بمثابة العائلة الأدبية النموذج، في إطار القرابة الأدبية المتنوعة الأوجه في مغربنا المعاصر.