هل خان المغرب الأمير عبد القادر الجزائري؟ (بقلم: د.عبد الدين حمروش)

حضر الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، خلال زيارته الأخيرة إلى روسيا، حفل افتتاح ساحة عمومية بموسكو، تكريما للمجاهد الكبير عبد القادر الجزائري. وللإشارة، فإن شخصية المجاهد، في مسارها الكفاحي المرير ضد الاستعمار الفرنسي، ظلت تشكل نقطة من نقاط سوء  التاريخي بين الجزائر والمغرب.

في هذا المقال الطويل، تجدون قراءة لموقف الدولة المغربية، خلال حكم السلطان عبد الرحمن بن هشام، من عدة أحداث وملابسات ساهمت في      تدهور العلاقة مع الأمير عبد القادر. قراءة التاريخ، خلال هذه الفترة، تبدو مهمة، للوقوف على بعض جذور سوء الفهم الجزائريالمغربي، على امل التقدم نحو فضاء مغاربي مشترك، يسوده الوئام والتعايش والتعاون. ان ترك المساحة الإعلامية نهبا لأقلام شعبوية، تنشط، هنا وهناك، على وسائط التواصل الاجتماعية، لن يزيد وضع العلاقة بين الشعبين الشقيقين الا تدهورا. ان كانت هناك منتصفية للحسابات التاريخية، فينبغي ان تتم على قاعدة علمية، يسودها الاحترام، والثقة في المستقبل المشترك..

                                                    

 تعرّض المؤرخ أحمد بن خالد الناصري، في كتابهالاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، إلى ثورة الأمير عبد القادر ضد الاستعمار الفرنسي. وعلى امتداد صفحات الجزء التاسع، المُخصّصة لنشأة الثورة الجزائرية، يُلاحظ القارئ إسقاط المؤرخ المغربي صفةالأميرعن المجاهد عبد القادر، مُستبدلا إياها بصفةالحاج“. ما الذي جعل الناصري، المعاصر للأمير عبد القادر زمناً، يكتفي بوصف الأخير بالـالحاجدونالأمير؟ لالتماس الجواب، تبدو العودة إلى خطاب السلطان المغربي، المولى عبد الرحمن بن هشام، ضرورية. فقد كتب الأخير إلى البلاد، بعد مُواجهات مُسلحة شديدة مع الأمير وجيشه، مُعلنا النّصر المُبين. ولأن الخطاب السلطاني طويل، يمكن الاكتفاء منه بما يلي:

وبعد، فإن الفاسد الفتّان وخليفة الشيطان، أبعد في الجسارة، وامتطى مطى الخسارة، واستوسع سبيل العناد، واستضل سبيل الرشاد، وقال أشد منه قوة، وسوّلت نفسه الأمّارة الاتّصاف بالإمارة“.

ما من شك في أن عبارات الخطاب السلطاني، كانت قاسية بحق مجاهد كبير، عالم، تقي وورع. قراءة الخطاب السلطاني، في ضوء الصورة المثالية التي اكتستها شخصيةالأمير، لابد أن تستثير عددا من الأسئلة. وبالعودة إلى الفقرة السالفة من الخطاب، يمكنترتيبالسؤال التلقائي التالي: هل كان السلطان المغربي يخشى من مُزاحمةالأميرله في سلطنته؟ وإن كان استنكارالاتصاف بالإمارة، مما ذكره السلطان في خطابه، إلا أنالقضيةتبدو أكبر من ذلك. ومن هنا، فإن كل تركيز على مسألةالإمارةيعتبر في غير محله،

بحكم ما يؤدي إليه من اختزال للموضوع برمته. وفي هذا السياق، لا ينبغي إغفال الإشارة إلى مبايعةالأميرللسلطان، وحرصه على التصريح بعدم إيلاءالإمارةأية قيمة، حسب قول مأثور عنه.

    ونحن نَعْرض لـالجزائري، يمكن الحديث عن وجود قراءة مغربية لثورته، التي واجهت التغلغل الاستعمار الفرنسي، في بداياته الأولى. وبعكس كل القراءات الأخرى،           يظهر أن القراءة المغربية لها خصوصيتها، النابعة من تشابكالخطوطالجزائريةالمغربية، على أكثر من صعيد جغرافي وثقافي وجيوسياسي. من شأن قراءة الناصري، في مؤلفه المذكور، آنفا، أن تشكل وجهة النظر المغربية. في البداية، لابد من تسجيلالتجاذب، الذي كان يشعر به المؤرخ، إزاء شخصية ما كان يسميهالحاج عبد القادر“. وقد عبّر عن ذلك قائلا: “واعلم أنه قد يقف بعض المنتقدين على ما حكينا من أخبار هذا الرجل فينسبنا إلى تعصب وسوء أدب، والجواب أنا ما حكينا إلا الواقع“.

 إذاً، كيف يُقدِّم الناصري شخصية الأمير عبد القادر؟ حين نحاول استجماع صفات بطل الثورة الجزائرية الأكبر، بحسب ما ورد فيالاستقصا، سنلاحظ أنها تتوزع إلى خانتين متناقضتين من الصفات:

الصفات الإيجابية: الشجاعة والإقدام، التنظيم العسكري الجيد، ثم البصارة بالحرب. وبالنسبة للصفة الأخيرة، يمكن الاستشهاد بنصيحةالأمير عبد القادرلخليفة السلطانسيدي محمد بن عبد الرحمنبخطورة نصب الأخبية، في أثناء المواجهة بين المغرب وفرنسا، في معركةإيسليالشهيرة. ويتضح فحوى نصيحةالأميرتلك في قوله: ” فإن العدو متى رأى الأخبية مضروبة لم ينته دون الوصول إليها ولو أفنى عليها عساكره“. النصيحة المقدمة لخليفة السلطان، لم يتردد الناصري في الاعتراف بأهميتها قائلا: “وكان هذا الكلام منه صوابا“. ذلك أن مآل المعركة، الذي تجسد في خسارة المغاربة المعركة، يُبيِّن صوابية نصيحة المجاهد عبد القادر الجزائري. وفي هذا السياق الإيجابي، من الجدير تسجيل حُسن منزلةالأميرلدى السلطانلأنه رأى أنه قام بنصرة الإسلام على حين لا ناصر له؛

 – الصفات السلبية: فساد النية، تدبير الدسائس، الاستبداد والسعي إلى تملّك المغرب (خصوصا بعد هزيمة إيسلي). ومن العبارات الدالة، بهذا الشأن، قول الناصري: “وكان الحاج عبد القادر في هذه المدة قد فسدت نيته أيضا في السلطان وفي الجهاد (…) ورام الاستقلال وأخذ في استفساد القبائل الذين هنالك وتحقَّقَ السلطان بأمره“. أما التآمر على السلطان، فيتمثل في توجيهالأميرلشيعته إلى السلطان، وإنزالهم على نهر سبو، بقصد الاجتماع بهمويصل يدهم بيده ويتم له ما أراد، فلما اطلع السلطان على دسيسته بعث إلى أولئك الجماعة عسكرا“.

هكذا، يقرأ الناصري سيرةالأميرفي ضوء حالين: حال البيعة للسلطان، والانخراط في سلك الجهاد، دفاعا عن الدين والبلاد والأهل. وقد جهد السلطان في تزويدالأميربكل ما كان يحتاجه، من مال وسلاح وخيل،على يد الأمين الحاج الطالب ابن جلون الفاسي وغيره“. أما الحال الثانية، فهي حالانفساد النية، التي صار عليهاالأمير، سعيا إلى الاستقلال، وأكثر من ذلك حكم المغرب. ولعل ما يشهد علىانفسادالعلاقة بين الفريقين، وبالتالي انعدام الثقة في ما بينهما، أن قدّمالأميرعبد القادر نصيحته لولد السلطان، قبل نشوب معركة إيسلي: “وهو على فرسه“. أما من جهة ولد السلطان، أي سيدي محمد بن عبد الرحمن، فإنه لم يول اهتماما لنصيحة الأمير الجزائري.

هل هذا كل ما يمكن سرده، في ما يخص تحول علاقة الأمير بالسلطان، من التعاون إلى التآمر، فإلى المواجهة المسلحة؟ ما من شك في أن طموح الأميرالزائد، إضافة إلى جموحه الثوري، كانا يفرضان إكراهات على السلطان، باعتباره قائددولةلا قائد كتائب جهاديين. فرنسا كانت قد استولت على الجزائر، حين أخذالأميريتنقل بالصحراء وبني يزناسن ووجدة والريف. وفي عبارة دالة من الناصري، تمت الإشارة إلى أنالجزائري” “استكثر في هذه التنقلات بما هو من رعية السلطان أو جنده“. إضافة إلى هذا، بدا أن هناك تغييرا في النظرة إلى استراتجية الأمير في مواجهة الاستعمار الفرنسي. ففي حين كان نجاح الثوار الجزائريين قائما، على قتل الأنفس وغنْم الأموال، كان نجاح الفرنسيين فيقضمالأرض، إلى أن تم احتلال الجزائر بالكامل. وشتان بين الأمرين، بحسب عبارة المؤرخ المغربي.

في هذه الفترة بالذات، كانت فرنسا تختبر المناعة المغربية، عسكريا، على الحدود. ولماكلّمالسلطان السلطات الفرنسية، بشأن العهدة الموقعة بينهما، تعللت السلطات الاستعمارية بانتقاضها، نتيجة إمداد المغاربةالأميربالخيل والسلاح والمال المرة تلو المرة. غير أن استراتيجة الثوار الجزائريين، المكتفية بإيذاء الفرنسيين في الأنفس والأموال، كان من شأنها أن تثير في نفوس المغاربة الخشية علىتراببلادهم. أما الانهزام فيإيسلي، والهجوم على طنجة والصويرة، فقد أنذرا بقرب عهدالحماية الفرنسيةعلى المغرب، وإن تأخر ذلك لعقود.

انتهى عبد الحاج عبد القادر أسيرا، بعد أن واجه الفرنسيين بضراوة، وواجه المغاربة، من بعدهم، ببسالة. وإن انقضى على ثورة الجزائر الأولى أكثر من قرن ونصف، اليوم، إلا أن مجرياتها وتبعاتها مازالت تستبد بالنفوس (من الشعبين معاً). وفي كل مرة، يطرأ حادث بين الطرفين، تتم استعادةالتاريخالقريب والبعيد. أعتقد أن استراتيجية السلطان، عبد الرحمن بن هشام، في دعم الثورة الجزائرية، والانكفاء داخل سلطنته، حماية لها من زحف الفرنسيين (أو تأخيره)، كانت مبنية على قراءة الواقععلى الأرض“. فبعد خسارة حربإيسلي، انكشفتحقيقةقوة المغرب، آنذاك، بعدالهيبةالتي رسختها معركة وادي المخازن، ضد التحالف الإسبانيالبرتغالي.

هل أخطأ السلطان المولى عبد الرحمن، حين قبل دخول أهل تلمسان في بيعته، على الرغم من إفتاء جلّ علماء فاس بنقيض ذلك (ولو لأسباب شرعية أخرى)؟ وهل أصلح السلطان ذاته خطأه، حين لاحق الحاج عبد القادر، إلى أن سلّم نفسه للفرنسيين؟ إن الخسائر التي تكبدها السلطان، منذ أن أرسل ابن عمه المولى علي خليفة على تلمسان، مرورا بمعركة إيسلي، ووصولا إلى المواجهات العنيفة مع الحاج عبد القادر، ستظهر للسلطان حجم التحديات القادمة. سياسة الانكفاء القطري، داخل المجال الترابي المرسوم مع العثمانيين، كان الجواب البراغماتي عن أسئلة تلك المرحلة التاريخية العصيبة.

  في إثر السلطان عبد الرحمن بن هشام، سيُطْرح نفس التحدي على السلطان محمد الخامس: دعم الثورة الجزائرية، من خلال جعل المغرب خلفية لها. ولذلك، ظل زعماء الثورة الكبار يقيمون بالمغرب، ويخططون لمواجهة الفرنسيين من داخل ترابه. والحديث عنجماعة وجدة، بقيادة بومدين وبوتفليقة وغيرهما، يُبيِّن حجم الدعم المادي واللوجستيكي المغربي للثوار الجزائريين. غير أن رفض محمد الخامس التعاون مع الفرنسيين، في مسألة استرجاع أراضي الصحراء الشرقية، إلى حين تحرير الجزائر واستقلالها، سيرهنملفاشائكا بين يدي المستقبل المجهول. استقلال الجزائر، ونشأة دولتها الوطنية الجديدة، سيجعلان الإيمان بالبعد القُطْري عقيدة، في مناوءة الوحدة الترابية للمغرب من جهة، وفي إعدام الاتحاد المغاربي الكبير من جهة أخرى.

هل كان على الملك الحسن الثاني، من بعد والده محمد الخامس، أن يركن إلى تطمينات الهواري بومدين، الذي لم يكفّ عن التصريح بأن لا دُخلَ له في  ما يسميهالصحراء الغربية” (في مُقابل الصحراء الشرقية)؟ انسداد الحدود المغربيةالجزائرية، واستمرار الجزائر في مناوءة الوحدة الترابية للمغرب، إضافة إلى تعطُّلالاتحاد المغاربي، بل وبداية التفكير فياتحادبدون المغرب مؤخرا (من قبَل البعض)، من شأن كل ذلك أن يفسح للبراغماتية القطرية أوسع الأبواب.