في كل حي من الأحياء الهامشية، كان هناك مكان للإسكافي. هذا الرجل الذي يشبه بانحناءته منحوثة “المفكر” للنحاث الفرنسي رودان. لكن صاحبنا هذا كان منكفئا طوال حياته على مهمة صعبة وهي التفكير في إيجاد صيغة أخرى لإعادة الحياة لأحذيتنا المثقوبة. نحن لا نختار المهن التي التي تطمس إسمنا الشخصي. بل هي التي تختارنا مثل قدر رسمته يد أسطورية أشبه بيد إلاه خرج لتوه من قلب تراجيديا يونانية.
الإسكافي لا يحتاج لمتجر كي يضع جثت الأحذية في انتظار بعث جديد. يكفي أن يضعها فوق عربته المتهالكة. يخرج سندانه ويضع المسامير الرقيقة قرب ركام قطع بلاستيكية سوداء. قبل أن يبدأ عمله الصباحي, يرتشف كأس شايه البارد في انتظار أن يطل عليه وجه امرأة أو رجل بيد ممدودة لعله ينقد ماتبقى من جسد الحذاء.
لكن اليوم يمر بطيئا وما عاد الناس ينتبهون لحضوره هناك. الحياة تغيرت وأصبحت الأحذية تبدل مثل الجوارب. لا حاجة لإصلاح شيء استنفد وقته وقطع المسافات الكافية لتجهز على روحه. أحيانا يتساءل الإسكافي عن جدوى بقائه هنا مثل تحفة قديمة موضوعة في متحف للتاريخ، إذ لولا بعض الطاعنين في السن ووفائهم للأشياء التي رافقت حياتهم، لظل بدون معين لكي يعيش تلك الحياة البسيطة. هؤلاء الناس يشبهونه في احتفالهم بالأشياء القديمة، لأن شراء حذاء جديد قد يخل بمشهد تهالكهم. يفضلون البقاء على صورتهم هذه، كم لو كانوا يحاصرون الزمن لكي يدقوا بعض المسامير في رجله كي يتوقف. الأشياء بالنسبة إليهم مثل كائنات حية، لا يجد أن نتخلى عنهم في آخر المطاف وندفنهم في قلب النسيان.
الإسكافي لا يريد أن يترك مهنته هذه خوفا من اللاجدوى. خوفا من العدم الذي قد يقف أمامه كرجل بدون ملامح لكي يأخد عربته إلى مقبرة المتلاشيات التي لم يعد لها مكان في الوقت الحالي. كل شيء يرمى في عجلة..نتخلص من كل ما نمتلكه من أشياء اليومي. نرمي بها دون أي إحساس بالذنب. أصبحنا قساة ولم تعد العشرة تشكل بالنسبة لنا أدنى شيء. لم يعد الحذاء رفيقنا لسنوات طوال، نهتم به وكلما أحس ببعض العياء نحمله إلى الإسكافي كي يعيد له بعض رونقه. نشتاق إليه في تلك الأيام التي يفارقنا فيها وهو بين يدي الإسكافي.
الإسكافي، رجل وحيد الآن. يشرب كأس شايه وينتظر ظل رجل يطل عليه حاملا بعض ماتبقى من زمن تلاشى.