
بقلم: زكية لعروسي

ها قد جاء العيد، لكن ليس ككل عيد. جاءنا هذه السنة مقطّع الأوصال، يجرّ من أذنه، تسبقه رجل كبش ويعقبه رأسه… أما الجسد، فقد دفنّاه سلفا تحت تراب الجفاف والغلاء وانعدام التضامن.
ها نحن نشهد التحام جمعي لأطراف الأكباش: ِرجل هنا، رأس هناك، وكرش في المنتصف، تحمل كالغنائم من ساحات المعارك الاستهلاكية. بقدرة قادر، صرنا نخلق “أضحية Frankenstein” من فتات السوق، وندّعي أننا أحيينا شعيرة عظيمة… بالله عليكم، أيّ شعيرة هذه وايّ أضحية بالتقسيط؟! أليس من العار أن نحوّل العيد إلى بازار أطراف؟!
لقد تجاوزنا مرحلة التباهي بكبش حي، صرنا نتباهى اليوم بـ”نصف فك سفلي” أو “قرن أعوج”! بأي وجه يدعى هذا عيدا؟ بل بأي دين؟ بأي منطق؟ بأي ذوق حتى؟! أمير المؤمنين – حفظه الله -قالها بوضوح: لا داعي للأضاحي هذه السنة. هو راعي هذه الأمة، ونائبنا الشرعي، وهو أدرى بالواقع والمصلحة الوطنية.
لكن يبدو أن البعض لا يقرأ، أو يقرأ ما يشتهي. أين هي الحملات التحسيسية التي تربط القرار برؤية إيكولوجية وإنسانية؟ أين الحديث عن السيدة الطبيعة التي أنهكناها بطمعنا؟ أين العقول التي تدرك أن اللحوم -رغم طعمها- قد أفسدت ذوقنا وأفسدتنا؟!
إن من يقبل على شراء أطراف الأضاحي بأثمان خيالية، لا يشتري فقط اللحم، بل يشتري الوهم. يشتري صورة العيد لا جوهره. يشتري شكله لا مضمونه. هذه السلوكيات لا تعبّر عن فرح، بل عن خوف من نظرة المجتمع، عن عقدة المظاهر، وعن ترف زائف يكشّر عن أنيابه في وجه من لا يملكون حتى ثمن الخبز.
الأسواق في مشهد عبثي، حيث يشترى رأس الكبش أو رجله بثمن يفوق ما كان يشترى به الكبش كله!
ما هذه المهزلة؟!
هل تحوّل العيد من مناسبة دينية تحمل قيم الرحمة والتكافل، إلى مهرجان استهلاك أعمى، نتباهى فيه بامتلاك “أطراف” لا لحما، وبالتفاخر لا بالتقوى؟!
هل أصبح همّ البعض هو ملء الموائد وتزيين الأطباق، ولو على حساب كرامة المحتاجين؟! أين الحسّ التضامني؟ أين الوعي الجماعي؟ بل أين الدين في كل هذا؟!
وإذا كنا لا نستطيع أن نضحي جميعا، فلنضح على الأقل بأنانيتنا، بجشعنا، بعاداتنا الاستهلاكية المريضة.
لنثبت أن العيد ليس لحما يشوى، بل قلبا يطهر.
وأننا نستطيع أن نحتفل بدون سفك دم، ولكن لا يمكننا أن نحتفل على حساب الكرامة الإنسانية. تراثنا الديني المأثور -قارئي العزيز- فيه ما يوقظ الضمير.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إني لأكره أن أرى أحدكم نهما في بطنه، كأنه لم يخلق إلا ليأكل!” وقال الإمام الشافعي: “ما شبعت منذ ست عشرة سنة، لأن الشبع يثقل البدن، ويقسي القلب، ويذهب الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة.”
أما نحن؟ فقد جعلنا الكرش مذهبا، واللحم عقيدة، والسوق قبلة! نأكل اللحم حتى صار يفكّك أجسادنا من الداخل، صرنا نشكو أمراضا مزمنة لم يعرفها أجدادنا الزاهدون: كوليسترول، سكري، ارتفاع ضغط، وووو….
لقد استهلكنا من اللحوم طيلة العام ما يكفي لبناء هرم من الشحوم، ومع ذلك، حين قيل لنا: توقّفوا هذه السنة، قلنا: لا، بل سوف نتحايل! سوف نشتري الأطراف، ونقيم عيدا بالتقسيط، ونحتفل بلحظة طهي مريضة لا روح فيها. إذا كنا لا نستطيع أن نضحّي بكبش كامل، أفلا يمكننا أن نضحّي بعادة سيئة؟! أن نضحّي بثقافة الاستهلاك الفارغ؟ أن نضحّي بـ”الكرش” و”الواجهة” من أجل التضامن مع من لا يجد لحما طوال السنة؟!
ليس هذا عيدا، بل فضيحة لوجستية وأخلاقية. ليس هذا أضحية، بل طقطوقة كبدية بطابع المزاد العلني. فإما أن نحيي العيد بمعناه، أو نعتذر للسنة، وللطبيعة، ولأجسادنا، ونقول: كلوا قليلا … تفكروا كثيرا.. فالعيد لا يقاس بكمية اللحم، بل بكمية الرحمة.


