ليعد النقد التشكيلي حكما (ترجمة: المصطفى غزلاني)

   منذ عام 1971   حين أصدر كتابه مقدمة الفن الحالي (Introduction  à l’art d’au jourd’ hui) حاول جون لوك شاليمو طرح إشكالية اتجاه الفن المعاصر مركزا على مجموعة من الفنانين التشكيليين الذين ثاروا ضد هيمنة فن الإيجاز (Minimalisme) وفن العناصر الشعبية (Pop-Art). تابع مراحل هذا التصاعد موليا الأهمية للتحليل الموثق أو معتمدا على النصوص التي كتبت كوثائق مؤججة للصراع، محاولا بذلك إيجاد جواب للإشكال الذي عنون به الكتاب الذي اخترنا منه هذا النص: إلى أين يسير الفن المعاصر؟                                           

                                  

في نص بعنوان ” الفن الحديث ضد الفن المعاصر” يطرح الناقد جون فيليب دوميك J. P. DOMECQ إشكالية التمييز في مادة فن الصباغة باستفهام عريض: كيف نستطيع أن نفصل بين ما هو فن وما هو غير ذلك؟ وكيف نميز “الفن الجيد” عن الرديء؟

دون شك أنه سؤال لا ينضب، حيث يؤشر على تناقض الذوق، حسب كانط Kant، وعلى صعوبة المسألة في مبدئها، لكن ينبغي إيجاد حل، بطريقة أو بأخرى، وإلا سوف لن نخرج من مأزق ” ممنوع التصنيف” الذي أدى إلى هذه الكارثة الراهنة.

أليس النقاد التشكيليون هم أول من يتحمل مسؤولية التمييز الجسيمة هذه؟ يبدو لي أن الأمر في غاية الدلالة بأن يجتمع بعضهم في مؤتمر مدينة رانس Rennes حول شعار: أرشيفات النقد التشكيلي، وأن يتناول المؤتمرون هذا الإشكال تحديدا.

كانت هذه مناسبة سانحة لتيري دو ديف DUVE DE. T ليذكر بأعماله حول ” ريدي مايد ” Made -Ready (فن إعادة توظيف الأشياء) ؛ اتجاهُ الفنان مارسيل ديشومب M . Duchamp , من حيث هو نموذج في الفن التشكيلي عامة. كان ( بالنسبة للناقد) حجر الزاوية للتفكير في جمالية الحداثة . كما عمق تيري مواقفه خاصة تلك المتضمنة في كتابه ” باسم الفن” Au nom de L ART  الصادر عن منوي  1989. نذكر أنه منذ عملية تقديم المبولة  L’ urinoir  على أنها نافورة ، التي نسبها  ديشومب لريتشارد موتR. MUTT خلال معرض الفنانين المستقلين بمدينة نيويورك سنة 1917 ، منذئذ ، أصبحت مقولة (إن هذا فن  ceci est de l’ art ) تعوض الأحكام من قبيل هذا جيد / غير جيد  من حيث هو لوحة فنية   أو منحوتة  …إلخ

وإذ منح التاريخ الشرعية ل” ريدي مايد ” ولصاحبه ديشومب، أصبح مفهوم الفن عموما هو السائد. أكيد أن ليس كل شيء فنا، لكن كل شيء يحتمل أن يكون كذلك. ” إن الصعوبة الكبرى التي نتجت عن وضعية الأشياء هذه، يعلق تيري، هي أنه تنبغي المحاكمة الآن تدريجيا ودون أي معيار لذلك “. من هنا فنظريته القائلة بالاحتكام إلى الجمالي ليست إلا مباركة:” الفن اسم خاص”   Un nom propre .

منذ أن أمسى العمل الفني غير مجبر على احترام معايير التخصصات (فن الصباغة، النحت… إلخ) – تلك المعايير التي تخول التقييم والتصنيف- أصبح توظيف عبارة ” فن دون شرط”، لا تمكن من وصف شيء البتة، فارغة من المعنى” كأنها إصبع يشير باتجاه شيء ولا يبينه”. ومهما كان المبرر الذي يعلل به تقييمه، يجد المختص (الناقد التشكيلي) نفسه تحديدا، في الموقف ذاته الذي يوجد فيه أيٍ كان وكيفما كان مستواه المعرفي: لا يملك، لبناء أحكامه، إلا ذاك الإحساس بأنه أمام عمل فني أم لا.

حاول جورج ديكيG .DIKIE في كتابه ” دائرة الفن” (The Art cercle) الصادر بنيويورك عام  1984 ، أن يحدد العمل الفني المعاصر بناء على نظرية ” المؤسساتية” (Institutionnelle) تكمل بشكل بارز رؤية تيري دو ديف . فبالنسبة لجورج ديكي، ليس العمل الفني إلا حدثا عرضيا (Artefact) لا يصبح “فنا” إلا بإحرازه على إمكانية التقييم من طرف مؤسسة اجتماعية يصطلح على تسميتها ب”عالم الفن” (le monde de l’art ). إن ج.ديكي يرى أنه لا يوجد أي معيار ممكن لذلك; ( القدرة عن التعبير عن المشاعر مثلا) :” إن العمل الفني اليوم يمكنه حقيقة أن يكون عبارة عن أي حدث عارض لو قرر عالم الفن أن يجعله كذلك”.

منذئذ، والإشكال مطروح لمعرفة كيف يكون لدينا، قبل كل شيء، الإحساس بأننا أمام عمل فني، سواء أ كنا ننتمي إلى دائرة عالم الفن أم لا. لقد سارع دو ديف بالتأكيد على أن نظريته لا فائدة منها في هذا الباب سواء بالنسبة للهواة أو للنقاد المحترفين. علاوة على هذا،” إننا لا ننتج فنا بالنظريات، خاصة أن الفن الجيد هو ذاك الذي يدفع إلى إعمال الفكر.

بينما كان رئيس الجمعية العلمية للنقاد التشكيليين حاضرا في المؤتمر، أخذ يتساءل حول المبولة المعلومة، كيف كانت بداية كل ذلك، بمَ استطاع هذا الشيء (الذي منحه التاريخ الشرعية الفنية) أن يثير تقييمه كمختص، يقول:” بأي شرط كان لمبولة ديشومب القدرة على أن تمسني في إنسانيتي وبالتالي أن تعنيني؟“. وجد الرئيس نفسه “محاصرا داخل نسبيته الخاصة ” إذ أدرك أنه عاجز على أن يجهر بالقيم التي، سواء في لوحة ما أو المبولة، كانت قادرة على مساءلته.

لم يكن السيد الرئيس مغفلا، لكن تائها، بشكل إرادي بعض الشيء (غير المغفلين يتيهون أيضا، كما يقول جاك لاكان)، لم يستطع رئيس الجمعية أن يجد الحل الذي، والحالة هذه، لن يكون تنزيلا إلاهيا ( بودلير مات وكليمون كرنونمبورغ أمسى كهلا لا يجيد إلا التحقير لكل ما ينتج اليوم تحت اسم الفن الإيجازي

( MINIMALISME ) أو ما بعد الحداثة (POSTMODERNISME).

ينبغي توحيد الجهود، إذن، في البحث عما يشتغل فيه كثير من المتدخلين بطموحات مختلفة. هكذا، حاول دانيال سوتيف D. Soutif أن يعتمد على التقابلات الثنائية، خاصة مثل تلك التي تنبني عليها الأحكام الاستطيقية من النوع الكانطي ( هذا فن / هذا ليس فنا) . وبالنسبة له ” فالنقد التشكيلي الفعال لا يرتكز على الثنائيات، بل على الصفة الإجرائية المستمرة حيث تتداخل مستويات مختلفة تعنى بالمفهمة (CONCEPTUALISATION) أو باللغة، بالبرهنة والفكر.”

إن النقد الفني الجيد، كما بيّن كليمون كرونومبورغ C. Greenberg، في كتابه النموذجي، يجمع بين التعليل (L’ARGUMENTATION) والتعبير العاطفي دون أن يكون مبنيا على البرهنة (Démonstration). إنه، أي النقد، يشتغل على عدة مستويات و” .. إذا أردنا أن نعترف له ببعض دلالاته، من الأفضل لنا القبول بأن النقد التشكيلي يبدأ حيث يستبدل الشرط الذاتي العاطفي بتحليل خصوصيات وِصفات الموضوع [العمل الفني]”.

إن معيار استقلالية الوسيط (Medium) المشهور عند كرونومبورغ، مثل الوفاء للطبيعة عند ديدرو DIDEROT، لا يشكلان لوحدهما شرطي التقييم عند صاحبيهما: للعاطفة دور أيضا، وما يجعل منهما معا، ناقدين جيدين هو أننا، بعد قراءتهما، نرى في الأعمال التي تناولاها بالتحليل، أشياء ما كنا لنراها لولاهما.

هنا تتوقف سلطة النقد، وهذا ليس أمرا بسيطا. بل، سيكون في غاية الأهمية لو شكل النقد وحده بمعية المبدعين ” عالم الفن”. لكن، للأسف لا شيء من هذا: إن عالم الفن اليوم يتكون أولا من الوسطاء، التجار، المضاربين، موظفين ومندوبين من كل الألوان، هؤلاء هم من تعود إليهم سلطة القرار في أن يصبح ما هو مجرد حادث عرضي بسيط فنا، تبعا لنزواتهم. صحيح، أنهم ليسوا جميعهم دون كفاءة، ليسوا وقحين، لكن واقع الأمر أن عالم الفن اليوم في مجمله يعلّي، يثمن، ويفرض تحديدا ذاك الذي يمكن تسميته ” الأيّ شيء” (Le n’ importe quoi) على أنه فنّا.

لا فائدة من التأكيد على تكاثر أشباه الفنانين في ظل هذه الشروط، ممن يصبح بإمكانهم أن يحققوا مستقبلا زاهرا دون أن يتقنوا لا رسما ولا صباغة ولا نحتا… إلخ. إذ يكفي أن تُقترح “أعمال” تبدو في نظر الأعضاء المتحكمين في “عالم الفن”، على أنها أعمال فنية، أي تلك الأشياء والأفكار المشابهة لما اعتادوا على تعميدها فنا. ولكونهم لا يملكون لا الأدوات ولا النظريات ولا التجربة، فإنهم يتجنبون الاختيار والتمييز، لهذا فالقائمة عريضة.

مستاءة بحق وقفت بعض الإرادات الجادة، منذ زمن، لتعري هؤلاء الأشباه. استسرعت الابتهاج بالنصر. لكن، في عمق حماسها الطري رمت الفن- الوليد bébé – Art) ) في ماء  عالم الفن ( le monde -de- L’ art).  بمعلومات غير كافية، كانت إرادتنا الحسنة الفاضحة تخلط أشباه الفنانين بالحقيقيين، مما شوش على الجمهور الذي يملك حسن السجية مما جعله يفضل   الوقوف في طابور الانتظار لساعات من أجل مشاهدة مونطينا (MANTEGNA)  وكرافاج (CARAVAGE)، إذ أدرك أنه من الأفيد له أن يهجر قاعات بامبيدو (POMPIDOU) المعاصرة المملوءة بلوحات ذات التصور المبارك من طرف المؤسسة [ عالم الفن]؟.

من هنا حاول الصحفي اللامع جون فرانسيس هيلد J. F. HELD  خوض المغامرة ضد عالم الفن، في أحد أعداد مجلة ( حدث الخميس)، مانحا بذلك أفضل نموذج للهجوم الواعي ، لكنه كان هجوما تقريبيا وغير منظم وهذا ما أفرز مساوئ كثيرة. نأخذ مثلا على ذلك، في الصفحة 76 من عدد،  18- 24 يونيو  1996: نجد أنه لم يكن نزيها عندما وضع لصورة تمثل موضوع دجنبر  1969، عنوان شرائط بيضاء وزرقاء . مردفا بتعليق يقول: “لا فرق حتى لو كان ذلك في دجنبر 1971، فالسيد بيرن BURAN يعمل نفس الشرائط منذ 20 عاما”. لا. بيرن لا “يعمل” الشرائط ، بل يوظفها كأدوات بصرية لبناء أعمال فنية مركبة وجد متباينة عن بعضها البعض في الفضاء ذاته، تتجاوب مع الأمكنة التي كان يستثمرها ، وذلك ليس  منذ  20 عاما بل، منذ أكثر من ربع قرن .

هل فن الإيجاز تقليدا في جوهره؟ ذلك ممكن، لكن بيرن ليس فنانا إيجازيا. ومع هذا، يبقى السيد هيلد، من   النقاد الأكثر صرامة وفعالية من كل تلك المؤسسات المدعوة ثقافية والتي تبالغ في منح الشرعية الفنية لما هو غير صالح لذلك.

أرجوكم، أيها المناضلون في سبيل تصور لفن مشذب من الأخطاء التي ظلت تشوهه منذ ما يزيد عن ثمانين عاما. اطلعوا على أعمال هيوم Hume مثلا، في تعليقه عن إيف ميشو  Yves Michaud خلال مؤتمر رانس: إن الفن يُتعلم ، بكل ما في العبارة من معنى . نتعلم كيف ننتجه ونتعلم كيف نتذوقه. وأما عملية التقويم فليست لا سهلة ولا مباشرة، بل تستدعي خبراء.

أدرك الآن سخريتكم. ” فلنتحدث عن هؤلاء الخبراء الذين نسميهم نقاد الفن التشكيلي: فإما أنهم سخروا كل معرفتهم لخدمة القوى الراهنة المهيمنة التي تجبرهم على إيجاد تبرير يسوغ كل ما يشبه الفن، وإما أنهم التزموا الصمت متحاشين خوض المعركة التي تدور رحاها الآن دونهم.”

رد جيد! وأيضا، أتقبلون بنكوص تيري دو ديف الذي جاء على شكل اعترافات إذ يقول: ” في الأوضاع الراهنة، إني أفضل نقدا تشكيليا يوزع النجوم والدرجات كما تعمل مجلة باري سكوب Pariscope: شاهدوا هذا الفيلم، لا تشاهدوا هذا. وانتهى. أدرك أني لا أقوم بهذا، مع أن هذه الصيغة من النقد مفتقدة هي الأخرى. إن كلمة نقد تستلزم إصدار أحكام.”

أجل، فليتوقف النقد التشكيلي على أن يكون إمّا أصمّ وإما عميلا. فليعد حَكَما. بأن يكون حقا مشروعا لكل واحد لا أقل ولا أكثر، لكن مع توفر عامل المعرفة، إذا أمكن، الذي يؤهله لأن يُجلي ما في العمل الفني من قيمة مما لا يستطيع الآخرون رؤيته بدونه ولا يهم أن يكون الأمر إيجابيا أو سلبيا./.

J . LUC. CHALUMEAU :Où  VA   L’ ART CONTEMPORAIN ? VUIBERT    —      2002 (Que la Critique Redevienne Juge ) P.197-201