بقلم: زكية لعروسي
كما سبق وأشرنا في السلسلة الثانية ان الجد المعروف بالقاضي السيد علي بن علي بن محمد بن احمد العروسي لم يكن أول من حج من الأجداد إلى تلمسان لتدريس علوم الفقه واللغة والنحو والشريعة، وتوسيع معرفته العلمية، بل سبقه إلى هذا والده محمد بن أحمد العروسي، إذ حسب علمنا بدات رحلتهم العلمية منذ 1850.. تاريخ تزامن مع الاحتلال الفرنسي للجزائر، وبالتالي لتلمسان منارة العلم.
فنزوح الجد علي العروسي من الجزائر إلى المنطقة الشرقية، واستقراره بعد ذلك بقرية “المنزل” الموجودة بقرب دوار الطرشة بضواحي مدينة بركان لم يكن وليد الصدفة، بل كان من اجل البحث عن والده محمد بن أحمد العروسي الملقب ب”سيدي رحو”، والذي “استقر بالمنزل”.
في الطريق إلى وجدة
استعان السيد علي العروسي اثناء رحلة عبوره من الجزائر إلى وجدة على متن بغلته بما تلقنه من اسرار النجوم من الفقه الصوفي وعلم الفلك في موروثنا القديم، إذ اعتمد على النجم القطبي ونجم الشمال لمعرفة إتجاه الشمال بالليل، وبالتالي تحديد باقي الإتجاهات الأصلية الأخرى، أما بالنهار فكان يستعين بالشمس لمعرفة اتجاه القبلة، والتفريق بين الجنوب والشمال و الوصول إلى اتجاههه المتوخى من عبوره، فكان عارفا بالآية الكريمة: ” وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ، قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ”..
كان المؤنس الوحيد له لتكسير الملل أذكاره وقصائد المديح النبوي، وتلاوة القرآن، والشعر، وكان كلما باغتته الأمطار، أو احس بإرهاق جسدي او تعب من حر الشمس بحث عن مكان آمن يقضي فيه بعض الوقت أو يبيت به، فكان ملجأه الآمن هي الحمامات (كانت تعوض الفنادق في بعض الجهات وتسمى بالنوتير) التي كان يقصدها الوافدون من السفر أو الحجاج القاصدون بيت الله الحرام، مقابل دراهم قليلة، فالرحلة ما هي إلا “مخالطة مع زيادة تعب ومشقة” كما يعرفها الإمام الغزالي، فأثناء وصوله إلى مدخل مغنية اصيب بشيء من التعب الجسدي، فطرق باب إحدى الحمامات بعدما ربط بغلته، وحمل من على رحَّالة بغلته الحقائب المصنوعة من اللوح والمثقلة بالكتب والمخطوطات، و”زعبولته” التي لا تفارقه، و” كموسة” فيها اقل ما يمكن من الملابس -كأي صوفي باع دنياه واشترى آخرته وجعل من العلم والورع زاده الوحيد -، فبمجرد تخطيه عتبة “الحمام- النوتير”اثارت انتباهه جمالية هندسة المبنى التي كانت من صنيع الاتراك، ليقترب منه فتى قوي البنية، أقرعا، وحافي القدمين يبدو انه كان في خدمة الزبائن المتوافدين على هذا “الحمام-النوتير” وتقديم الشاي لهم، وتلبية حاجياتهم،. وقد كان الفتى أيضا قوي الملاحظة، و يحسن فن الكلام وأساليب الترحاب التي كان يبدو انه يحفظ عباراتها عن ظهر قلب وهو يرددها.. عبارات تجعل الزبون سخيا قبل المغادرة:
“السلام عليكم يا فقيهنا،هل تريد قضاء الليلة معنا؟
ليجيبه السيد علي العروسي: “أريد أن أنام في ذاك المكان يا ولدي،حتى يسهل علي الولوج إلى بيت الوضوء للتوضأ حين آذان صلاة الفجر.”
الفتى: “ما يكون غي خاطرك يا فقيهنا، غادي نزيدك فراشا غليظا يوقيك من البرودة ديال الأرض،وغادي نترك ليك الفانوس شاعل باش يسهال عليك التنقل بالليل للوضوء في الحمام.”
هكذا كان استقبال الفتى للسيد علي العروسي، إذ لبى طلب هذا الأخير، وافرش له المكان المشار إليه، فتهيأ الجد علي للامتداد على الفراش، محاولا نفض الغبار عن وسادة صفراء كان يتوسطها لون أسود من جراء احتكاك الرؤوس التي تتالت عليها، او لربما من قلة النظافة كذلك، زد على ذلك لم يستحمل الجد الرائحة النتنة التي كانت “تفوح من الغطاء” مما اضطره أن يجعل من جلبابه غطاءا رئيسيا، ومن عمامته “الرزة” غلاف للوسادة الصفراء السوداء، وهو يقول بصوت مرتفع :
” تصبحون على خير يا جماعة.” ليخلد إلى النوم وهو يردد بين شفتيه وبصمت كلاما غير مفهوم، بالتأكيد كانت مجموعة اذكار وأدعية وتلاوة ما تيسر من القرآن الكريم.
لم يكن يعلم الجد علي العروسي أن مبيته ب”الحمام-النوتير” سيري عليه بعض المشاكل، إذ سيكون سببا في قدوم ضابط وثلاثة جنود فرنسيين، برفقة شخص يبدو من ملامحه انه جزائري، ولو كان يرتدي زيا عصريا وليس جلبابا، وكا في يده قضيب رقيق مفنن لتقديم نفسه بطريقة بلاغة العرب القدامى باعتبار العصا رمز من رموز السلطة والسوط كذلك، فكان ممن عرفوا في عهد الاستعمار ب”البياعة” أو “الخبارجية”. لم يكن مجيء هؤلاء من محاسن الصدفة بل إن صاحب الحمام كغيره عمد كما هي العادة في كل يوم بالإدلاء لهؤلاء “البياعة الخونة او الخبارجية” (ولنا ترجيح لهذه الكلمة انها من أصل تركي وهي مؤلفة من خبار وخواجة، والله اعلم) بعدد زبنائه المتوافدين على: الحمام- النوتير” وطبيعتهم وهويتهم وأصلهم، خوفا من تسلل أفراد خلايا المقاومة الذين كان يحاربهم نظام الاحتلال الفرنسي آنذاك، ناهيك عن الشكوك التي اثارتها حقائب السيد علي العروسي، والتي لم يفارقها في تلك الليلة باعتبارها زاده الروحي والوحيد في رحلة العبور إلى وجدة.
كان “البياع” المصاحب للضابط والعساكر قاسيا في تعامله مع الجد علي، فلم تشفع له لا لحية الجد البيضاء، ولا ملامح ورعه، إذ خضع لتفتيش جسدي دقيق جعله يحس بالإهانة ومس لكبريائه وكرامته، الشيء الذي كاد يفقده أعصابه، لولا تدخل الضابط الفرنسي الذي أعطى ل”البياع” أمرا بالفرنسية غير وجهة هذا الاخير نحو حقائب الجد، ففتحها راكلا برجله ومبعثرا جميع ما بداخلها من كتب ومخطوطات.
بقي جدي واقفا امام ما يحدث بصمت وثبات واثقين، وممزوجين بالدهشة كمن لا حول ولا قوة له، وقد ساعده على هذا الهدوء المطعم بالغضب زهده، وتصوفه، ورزانته الاخلاقية، وكيف لا وهو حفيد مولانا عبد السلام بن مشيش- رضي الله عنه وأرضاه- والمتعتق بالطريقة الرحمانية الخلوتية، ليتراجع “البياع” إلى الوراء لتفتيش ما تبقى من الشكوك في امرهم. وهو يهز رأسه كمن يوحي بأنه لم يجد شيئا بين الأمتعة يدل على أن الجد له صلة بخلية المقاومة الجزائرية. ستأذن هذا الاخير بعد ذاك التفتيش إنزال يديه من على رأسه لترتيب ما بعثر من كتبه التي كانت محكمة التنظيم في الحقائب، اللوحية، ليتمم رحلته بعد هذا الحادث.
استطاع “البياع” ان يقوم بتفتيش الجد السيد علي العروسي، لكنه تناسى أن ما حمله من كتب وما تلقنه من علم سيكون هو أخطر سلاح و زاد لتكوين جيل وطني سيرضع من ثدي الفقه الصوفي ليصبح مدفع المقاومة والثورة الشرسة في المنطقة الشرقية ضد الاستعمار الفرنسي …..
يتبع