إن حاولنا أن نجد كاتبا في بطون كتب التاريخ في قوة الجاحظ وإتقانه في تجسيد ارتباط المهاجرين بأوطانهم ؛ مَساقطِ رءوسهم ومَهاوي أفئدتهم ضاعت محاولاتنا عبثا.
يبقى الوطن عند الجاحظ الرؤية التي تكشف عن الفضاء الروحي للمهاجر من حاضر قلق بدأ من صورةَ البدويِّ الذي تُغرِّبه الحواضرُ فيَتُوق إلى قَيْظ البادية، ويستوحش من دهره ويتوق إلى اصوله واعراقه ونعمة ارضه التي زالت عنه، لينتقل بنا بعد ذلك إلى وصف حالَ الملوك والجبابرة الذين إذا حملَتهم الأسفار الماتعة بعيدًا عن أرض ميلادهم فلربَّما اصطحب بعضُهم في ارتحالاتهم عفرا بتَنشُّقها على وجع البِعاد، ويُوصي آخرون ذويهم بأن يدفنوهم في مَغرسهم الأوَّل إذا ما باغَتهم الموتُ في بلاد الغُربة.
يسمو بنا “كتاب الاوطان” للجاحظ إلى ثقافة وطن يتشابك فيها الوعي الفردي بمفاهيم يندمج فيها الحنين كمعطى إنساني ذكي ينبثق فيه حب الوطن من خريطة عروقنا متجاوزا وخارجا عن بيت الطاعة لكل ما هو سياسي.
الوطن تجربة واعية عند المهاجر المثقف بالخصوص تختلف كل الاختلاف عن المواطنة، فهي تتحرك وفق وداخل امكنة الذاكرة..ذاكرة تستحضر المشهد والملحمة واشياء أخرى لا تهترئ ولا يلفها النسيان ولا تحول مع الوقت؛ إنه في سويداء القلب كوكبا ليس بغارب ونسيما لا يتضوع، ونحمله كمثقفين وغير مثقفين نورا متلهبا يمحي ظلمة ليالينا.
فمهما كان الوطن، سواءً جمع بين طباع بحر خضم او يابسة حجارة يطؤها الإنسان والحيوان فهو حكاية مكتوبة على القلب عند المواطن بصفة عامة والمهاجر المثقف بصفة خاصة. فهذا الاخير يكون مواطنا بأرض وطنه حاملا لبطاقة وطنية، ليصبح وطنيا متكاملا في جسر العبور بالمعنى الفلسفي العميق.
وقد نتساءل: لم يهاجر المثقف إذن من وطنه طوعا مثل أصحاب الهجرة القسرية ( في حالة التهجير أو اللجوء أو الطرد..) إذا كانت وطنيه فائضة؟
إن الهجرة الطوعية السائدة، سواء عند المواطن غير المثقف هي بصفة عامة البحث عن وطن آخر يطعمه خبز الكرامة والحرية، أما بالنسبة للمثقف فهي البحث عن تغذية أخرى واكتشاف عوالم مستترة ومتفردة، إذ نسافر كمثقفين إلى وطن تعبيري آخر لمواصلة إبداع وانتشار في مساحات غير مساحات الموروث والتقاليد التي عرفناها. إنها تجربة علمية وادبية وثقافية تتوالد كلما ابتعدنا عن أرض ولادة ضاربة في عروقنا..
وقد سبق المثقف العربي المعاصر في هذا قدماؤنا ، فهذا الشنفرى لا يرى عيبا في اللجوء إلى أرض تغزوها الذئاب والضباع بدل بني قومه، وكذلك أبو تمام الذي رحل عن بلاد تقفل قلبه وتعقل لسانه:
وأصرف وجهي عن بلاد غدا بِها
لساني معقولا وقلبي مقفولا
فمهما تكن الدوافع لهذه الهجرة عند المثقف، فإنه يحس بغربة أينما حل جغرافيا، بل وتزداد وطنيته، وارتباطه بلغة ألفها ليعود إليها، مصورا بها عالمه الجديد اللامألوف والمجهول، فتتجدد وطنيته داخل لعبة الإبداع، ليبنيها ويرسمها بكلمات تنحتها هجرته، فتصبح التفاصيل الصغيرة مهمة.. تفاصيل قد تفقده قيمته الأدبية من بين اقلام بني امه وقومه.
فقلم المهاجر يصبح مخالفا ومغايرا لبني وطنه من الشعراء والادباء، إذ لا يمكن مقارنته بأقلام من هم على ارض الوطن، بحيث يختلف إبداعه عن إبداعاتهم، وكذلك ذاقته في اختيار المواضيع. ومن هنا لاحاجة للتنقيب عن عقد مقارنات بين الإبداعَيْنِ، أوالبحث عن نقط التشابه بينهما ووضع هذا الإبداع في مشهد أدبي واحد. فنجد لا سيما مواضيع مثل الوطنية، و حرقة الغربة والاغتراب كصرخة بين سطور المثقف المهاجر التي تحتمل عدم الاستقرار النفسي والاضطراب الاجتماعي والسياسي ببلد هجرة اصبح الكثير منهم يؤمن بالعرق واللون، مما يزيد من حنين المثقف المهاجر إلى عمقه الوطني والحضاري، وإلى طبيعة بلده التي تصبح ساحرة في مخياله، ولو كانت جرداء..
فلا احد يمكن أن يمتلك القدرة للحديث عن وطنية المهاجر في معانيها العميقة غير المثقف المهاجر نفسه، إذ تخلق الهجرة ثلاث انواع من المهاجرين:
1-مهاجر قد يذوب وينصهر في الثقافة الجديدة، وربما تنكر لحقيقته وموروثه.
2- مهاجر يصطدم بواقع جديد يبدو له ظالما كل الظلم وعنصريا، فينزوي إلى كهوف الدين والثقافة المتطرفة، لا يهمه الوطن ولا الاندماج في الثقافة الاخرى بل يكون ولأنه للشريعة والدين والأمة الإسلامية كمفهوم للوطن الام ليس إلا.
3-مهاجر يكتشف وطنيته الضاربة في العروق، والتأقلم مع ثقافة البلد الحاضن.
وهذا النوع الاخير يدخل فيه المثقف المهاجر عن طوع، فيتحول قلمه إلى ريشة يرسم بها شمس ابتسامة وطنيته بكل فخر، وبلغة متقدة ورؤى ناصعة لا تقبل تشكيكا أو اختلالا او عقدا، ليصبح هذا المثقف حريصا على الكتابة بلغته الام، معتمدا على موروث ثقافي ومركب ثقافي ولغوي جديد، وقادرا على التنقل من ثقافة لأخرى دون أن ينسلخ عن الأهم المهم الذي هي وطنيته، نابدا كل قطيعة مع ثقافة الموروث الوطني والعربي، او الانصهار في ثقافة أخرى… انصهار قد يفقدنا بوصلتنا للوصول إلى حقيقة ذواتنا..