كتبه: عبد الدين حمروش
تتناول هذه المقالات سيرة المؤرخ المغربي أبي القاسم الزياني. وزيادة على كون “ابن زيان” عُرف بالتأليف التاريخي، فقد تقلّب في وظائف مخزنية عديدة، منها الكتابة، والوزارة، والسفارة، والولاية، والحجابة. عاصر الزياني (أبو القاسم) خمسة سلاطين علويين ابتداء بالمولى عبد الله بن إسماعيل، وانتهاء بالمولى عبد الرحمن بن هشام، إلى أن كُتب له أن يشرف على المائة سنة. في مختلف مسارات حياته السياسية والعلمية، صدر أبو القاسم عن مواقف أصيلة، أهّلته إلى أن يوصف بزوبعة عصره. في هذه المقالات، نستعيد سيرة رجل دولة من الطراز الرفيع، قلّما يعرفه المغاربة من غير المطلعين على التاريخ، ونستعيد معها القضايا السياسية والثقافية المستجدة آنئذ، في اشتباكها مع ما كان يدور في القصور والبلاطات، من مؤامرات وتصفيات حساب، بين الأمراء والوزراء والكُتّاب.”
وُلد أبو القاسم الزياني، كما ورد في “الترجمانة”، بفاس، سنة 1147 هـ/ 1734م. وبحسب الشق الثاني من الاسم، فـ “الرجل” ينتسب إلى قبيلة “زيان” المنتشرة بالأطلس المتوسط. عن هذا النسب، يقول: ” ولمّا طالعت الكُنّاش الذي فيه رفع نَسَبَه إلى قبيلة زيان، ومنه الجدّ مالو الصنهاجي، ومن مالو رفعه إلى اليسع، الذي أسلم على ما في تاريخ سليمان بن سابق المطماطي نسّابة البربر، ومنه إلى صنهاج أبي صنهاجة في الجاهلية، ومنه إلى البربري مازيغ بن نبذا، من كنعان بن نوح عليه السلام”. والمقصود بالكناش المذكور، أعلاه، عبارة عن تقييدات “بخط اليد”، رفع فيها الجد المباشر، سيدي علي بن إبراهيم، نسب الأسرة إلى حام بن نوح.
ليس الأمر، في “تقييدات الجد”، المُطّلَع عليها من قِبل الحفيد، مجرد ولع شخصي بنسب الأسرة فقط؟ ذلك أن الزياني سيرتفع بشخص جده إلى مرتبة كونه “فقيها أستاذا عشريا نسّابة إخباريا، لم يكن في وقته من يلحقه في النسب، وهو ممن عدّهم الشيخ الحسن اليوسي من أشياخه”. وإشارة الزياني، بخصوص مُطالعته كنّاش الجدّ، حملت “قَدَرَ” ما سيورثه الجد للحفيد. بالموازاة، ستأتي الإشارة إلى خدمة الجد نفسه للسلطان إسماعيل، الذي “أنْقَله من أراق لمكناسة، وكان إمامه يصلي به”.
في سياق الإشارة الثانية، سترتسم معالم طريق الزياني: بين كتابة التاريخ وخدمة الملوك. غير أن الزياني سيختلف عن الجد، ومعه عن الوالد، بالاقتراب أكثر من السلطان. فإذا لم تكن تعدو خدمة الجد للمولى إسماعيل إمامة الصلاة، فإن الحفيد سيتقلب في دواليب الدولة زمنا طويلا، بحيث أمكن اعتباره أحد صُنّاع قراراتها، وبخاصة خلال عهدي سيدي محمد والمولى سليمان.
عاصر الزياني خمسة سلاطين، ابتداء بالسلطان الجد المولى عبد الله، ومرورا بسيدي محمد، فالمولى اليزيد، والمولى سليمان، ثم انتهاء بالمولى عبد الرحمن بن هشام. حداثة سِنّه في حياة المولى عبد الله، مثّلت العهد الخارج عن إطار الخدمة السلطانية، وإلى حد ما عهد المولى عبد الرحمن بن هشام، حيث كانت أخريات أيامه. أما عهد المولى اليزيد، الذي توسط عهدي سيدي محمد والمولى سليمان (1790ء 1792م)، فيمكن اعتباره مرحلة انتقالية في سيرة الزياني المخزنية، التي كُتب له فيها الشقاء والعذاب، بعد مدة وجيزة من الخدمة السلطانية.
تقلّد الزياني عدة مهام، منها ديوان الكتابة، الولاية على المدن، السفارة لدى السلاطين الأجانب، الإشراف على تدريب الجيش، الوزارة والحجابة، إلى أن انقطع عن الخدمة السلطانية بشكل نهائي، حتى وفاته في عصر يوم الأحد 17 نونبر 1833، وبالتالي دفنه داخل الزاوية الناصرية، بحي السياج بفاس، بأمر من المولى عبد الرحمن، عن عمر أشرف على المائة عام. ونظرا لتعدد المناصب، التي تقلّب فيها خلال عقود من حياته، لُقِّب بـ “ذي الوزارتين”.