خلال فترة من الزمن الغنائي المغربي، تم تداول مقطع من فن العيطة المشهور ”الحولي بقرونو سائك الرونو” الذي تحول فيما بعد إلى مثل شعبي متداول. وإذا كانت المناسبة شرط كمال يقال، فإن مناسبة هذا المقطع (المثل) الذي يحمل في طياته مفارقة عميقة وسخرية حادة في الوقت نفسه، ترتبط بما نعيشه اليوم وما نصادفه في أغلب مدننا من مظاهر الفوضى والتسيب في الفضاءات العمومية (الشارع العام، الحدائق العمومية، وسائل النقل العمومية، الساحات العمومية، أماكن التسوق، الإدارات العمومية ..الخ).
فعلى الرغم من تعدد هذه الفضاءات العمومية، تبقى الشوارع والطرقات من أبرز الفضاءات التي تتجلى فيها هذه السلوكات السلبية لما تخلفه من مآسي وفواجع. وأنت تسير في شوارع أغلب المدن، تصادفك ظواهر غريبة، أشخاص بسياراتهم الفارهة (رباعية الدفع)، أو غير فارهة (أما بالنسبة لأصحاب الدراجات النارية، فحدث ولا حرج) لا يولون لقانون السير أدنى اهتمام (الضوء الأحمر، حق الأسبقية، السرعة،…الخ). مما يضعنا أما معضلة الضبط الاجتماعي قبل القانوني كما يشير عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم/ David Emile Durkheim الذي اعتبر هذا الضبط آليات، أو عمليات مجتمعية وسياسية. تنظم سلوك الفرد والجماعة في محاولة للوصول إلى الامتثال والمطابقة مع قواعد المجتمع على مستوى إنساني وحداثي (على مستوى الحقوق والواجبات على الأقل). من خلال ضبط الإنسان لعلاقاته الخارجية (المجتمع) والقوانين، وتجاوز جانبه الحيواني الذي تحكمه الشهوات والغرائز (إنه التصور نفسه الذي أقامه إميل دوركايم في تمييزه بين الإنسان والحيوان).
عود على بدء
انطلاقا من تمييز إميل دوركايم السالف الذكر، يحمل مقطع العيطة مفارقة حادة. تنبني على ثنائية الحولي (الكبش) الذي يقود سيارة الرونو الفارهة أو العادية. لكن على الرغم من هذه الصورة الذهنية المفارق للواقع على المستوى الدلالي وليس التركيبي، فليس الحولي/ الكبش (الحيوان) هنا هو الذي ارتقى إلى مستوى الإنسان ليقود الرونو الفارهة، لكن الكائن الإنساني هو الذي ارتد (من خلال سلوكاته) إلى مستوى الكائن الحيواني، حيث تتحكم الغريزة والدوافع الذاتية. فيصبح عنده تجاوز مختلف قوانين وانضباطات المجتمع مسألة عادية (كما حدده كذلك علم النفس السلوكي). ليتساوى الإنسان والحيوان على مستوى السلوك والتصرف في الحياة العامة. يتحول الإنسان على إثرها على مستوى الوعي والسلوك إلى عالم الحيوان. على الرغم من امتلاكه وتوظيفه للتكنولوجيا الحديثة (سيارة الرونو الفارهة، السمارت فون/آخر موديل…الخ). تقودنا هذه المفارقة (ثانية الحولي/ الكبش(الحيوان)، والرونو (التقنية /التكنولوجيا)، إلى مفارقة أخرى ،تتجلى في معضلة الحداثة والتحديث
تحديث بلا حداثة
يعيش الإنسان العربي اليوم وهم الحداثة أكثر من أي زمن مضى. فإذا كانت الحداثة قد تجسدت في التجربة الغربية باعتبارها تحولا جذريا على كافة المستويات (المعرفة، ومفهوم الإنسان وتصور الطبيعة، ومعنى التاريخ)، فهي بهذا المعنى بنية فكرية كلية ومفهوم حضاري شامل، طال مختلف مستويات الوجود الإنساني. حي شمل الحداثة التقنية والحداثة الاقتصادية والحداثة السياسية إلى جانب الحداثة الإدارية والاجتماعية والثقافية والفلسفية والفنية…الخ. من هذا المنظور، نجد أنفسنا في العالم العربي (المغربي)، أمام تعارض حاد بين الحداثة والتحديث. تعارض بين بنية فكرية متخلفة، ومظاهر تحديث نوهم أنفسنا من خلالها بأننا نعيش مرحلة تطور وتقدم. لأننا لم نستوعب بعد أن الحداثة في الدول المتقدمة قد بدأت فكرية قبل تتحول إلى التحديث، وأنها تفرق بين الحداثة والتحديث، لذلك، تجنبت الكثير من سلبيات التحديث فتقدمت. أما نحن الذين ركزنا على التحديث من دون الاهتمام بالحداثة، فقد وقعنا (ولا زلنا) في مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية، وانطبق علينا مقطع فن العيطة ”الحولي بكرونو سايك الرونو، حتى صار فينا مثل.