أتذكر أنه في هذا الوقت بالذات من السنة الماضية، كنت على متن الحافلة التي قادتني في ليل مدلهم بكل الاحتمالات إلى زاكورة، كي أمتطي بعد ذلك سيارة من عهد سحيق. كحشرة آلية مضت تلك السيارة بجعجعتها الفظيعة إلى تاكونيت، لتلفظني بعد ذلك للصحراء.
أستحضر الآن هذا الإحساس بالهناءة الفصيحة. لا مكان للماضي أو المستقبل، كل لحظة تستغرقك بعنفوانها ودهشتها. يبدو أن الصحراء عصية على النسيان. أجد هذا الوصف الذي ضمنه لوكليزيو في كتابه ” الصحراء” أقرب إلى إحساسي الأول بهاته الصحراء:
” كان بلدا خارج الزمن، بعيدا عن تاريخ الرجال. ربما هو هذا البلد الذي لا يمكن أن يظهر فيه شيء أو يموت كما لو أنه انفصل منذ أمد عن البلدان الأخرى، في قمة الوجود الأرضي”.
انها التجربة الداخلية العميقة، وما أحوجنا إلى هذا الصمت وتلك الشساعة التي تمنحك إياها الصحراء بكرم زائد. كنت كلما تناهى إلى مسمعي خبر هذه الدنيا المشتعلة بكل أشكال العنف إلا وتفاقم إحساسي بالحنين الى تلك البيداء.
لا يمكن للقاء الصحراء إلا أن يكون قدريا، حتى وان تم التخطيط للذهاب هناك. لقد أشار مرة ادمون جابيس إلى أننا حينما نتعرف على الصحراء، نصبح مدينين لها بتلك التجربة الجميلة. صمت الصحراء يعرينا عبر هذا الفعل الرهيب لنصبح ذواتنا يعني لا شيء – بلغة جابيس- لكنه هذا اللاشيء الذي ينصت.
أعرف أني أدركت ما معنى الإنصات في مدننا الإسمنتية حيث لا مكان للجمال. هناك الرداءة تهندس الأشكال وتبدع بشراسة الضجيج. هاهو عواء هذه البشرية التي تعمل من أجل أن تموت. يصبح الصمت مستحيلا والإنصات لا يتحقق إلا عندما يصبح فعلا إنسانيا نتوخى منه استقبال ضيوف آخرين.
” الصحراء هي شكل من أشكال الفرح على عتبة الخواء ” هكذا كتب مرة رضوان بن عمارة في نص جميل بعنوان ” مملكة السر”. أعتبر هذا الفرح هو لقاء آخر مع الأرض. هو أشبه بالحلم حينما تجد نفسك أمام الأرض قبل أن يملأها الإنسان بالإسمنت والنباتات الموغلة في البداءة.
من يقرأ عن الصحراء لا بد وأن يصادف بفرح كبير ما كتبه شعراء ما قبل الإسلام. لنجد أن ما اعتبرناه مكانا صعبا وقاسيا كالصحراء أمكنه أن يساهم في تفتق مخيلة هؤلاء الشعراء الذين جعلوا من نداء الصحراء شيئا قدريا.
في عصرنا الحالي من لا يعرف تيودور مونود هذا الرجل الذي قطع آلاف الكيلومترات في صحراء قاسية بحثا عن كنهها وشساعتها المستحيلة. ألف مجموعة من الكتب محاولا أن يضمنها تأملاته ودراساته لهذه المنطقة التي حافظت على نقائها الأول. يذكر هذا الرجل أن ما يحبه في هذه الصحراء هو هذا الخضوع لقانون الطبيعة. نستيقظ حينما يظهر النور وننام جميعا يأتي الليل، نأكل ونشرب بتعقل. لا نبحث عن الوسائل التي بإمكانها أن تغير شروط الطبيعة.
الصحراء لا تحتاج إلينا، بل نحن في أشد الحاجة إلى هذه الصحراء التي ستعيد لحواسنا وظائفها الأولى.
” إن نداء الصحراء بالنسبة لرجال المدينة لا يمكن مقاومته ( يكتب لورنس) لا أظن أنهم سيجدون الإله. ولكنهم سيسمعون بشكل واضح الكلمة الحية التي سيحملونها معهم”.