أخباركتاب الرأيمجتمع

مواقع التواصل الاجتماعي وحرب السرديات الزائفة

سعيد بوعيطة (باحث مغربي)

كتبه: سعيد بوعيطة

أشارت الباحثة والمنظرة السياسية اليهودية ذات الأصول الألمانية، حنة أرندت في كتابها ”ما السياسة (ترجمة: زهير الخويلدي وسلمى بالحاج مبروك، ط1، منشورات ضفاف، بيروت، 2014)، إلى خطورة الأنظمة التي تجعل من الكذب جزءًا بنيويًا من سلطتها. لكن على الرغم من ذلك، فإن أخطر ما حذّرت منه الباحثة أرندت، هو ما تعيشه المجتمعات اليوم مع ذلك الجمهور الواسع الذي يمارس الكذب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويبرّره ويجعل منه واجبًا أخلاقيًا. لأن هذا الجمهور، لا يرفض الحقيقة فحسب، بل يحتقرها ويزدريها، لأنها تُربك اصطفافه، وتشكك في سردياته، وتمنعه من التلذذ بوهم امتلاك الحقيقة. لأن الإصطفاف مع قضية معينة اليوم، يعني أن تروّج ما يخدم سردياتك، حتى لو كان زائفًا. وأن تهاجم كل من يحاول مساءلتك أو نقدك، أو التغريد خارج سربك.

لهذا، لم تعد الحقيقة اليوم، شيئًا يُبحث عنه، بل أصبحت مسرحًا تُعرض عليه الرغبات، وتتجسد فيه الأوهام على هيئة حقائق مطلقة لا تقبل الشك. تحولت على إثرها مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحة (فضاء) حرب للسرديات الزائفة. ليس بين الأفراد فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى الجماعات والدولة…الخ.

وسائل التواصل الاجتماعي وحرب السرديات الزائفة

في الوقت الذي كان إنسان القرن الواحد والعشرين، ينتظر من وسائل التواصل الاجتماعي، أن تساهم في تجاوز احتكار الإعلام الرسمي للخبر والمعلومة، سرعان ما تحوّلت هذه الوسائل إلى حرب سرديات وصور مقاطع فيديوهات مفبركة ومجتزأة. تُوظَّف لتأكيد موقف أو تسويغ تحالف أو شيطنة طرف. أصبح على إثرها كل طرف من أطراف الصراع، يدعي إمتلاك الحقيقة دون غيره. حتى صار الدفاع عن الفكرة أكثر أهمية من فحص الفكرة نفسها أو التثبت من حقيقتها. لتتحول الحقيقة إلى مادة خام، يعجنها كل فرد أو فريق، وفق رغبته ونواياه المعلنة منها والخفية. لينساق متلقي وقائع وأخبار وسائل التواصل الاجتماعي وراء هذه المحتويات، ثم يعمل على تقاسمها وتكرارها. ليجد نفسه، لا يكرر هذه الأكاذيب فحسب، بل يُعيد إنتاجها حسب دوافعه.

ففي كل منشور حقيقي أو مزيف، وفي كل تغريدة كاذبة، وفي كل تعليق غاضب أو صورة منزوعة من سياقها العام والخاص، تتم إعادة تشكيل الواقع في هذه المواقع. لكن ليس وفق معايير واقعية (عقلانية)، بل انطلاقًا من قناعات مسبقة، ومن انتماأت ضيقة، ومن أحقاد دفينة أو خوف مكبوت، أومن دوافع خفية مؤدى عنها. بهذا، يصبح الكذب في هذا الفضاء المشترك، ممارسة يومية كأداة للتخوين، ورجما بالغيب. مما أدى إلى تفكك منظومة الصدق، بفعل انخراط الإنسان في صناعة الأكاذيب وفق موقعه السياسي والطائفي والعرقي…الخ. ليصبح لكل سردية جمهورها الخاص، وكل رواية تملك من يروّج لها، وكل فيديو مفبرك يحظى بمن يدافع عنه بوصفه دليلًا دامغًا. مما حول مواقع التواصل الاجتماعي من منابر لحرية التعبير (وظيفتها الأصلية)، إلى مصانع لتدوير الزيف والكذب، وتتحول إلى ساحات حرب سردية.

حرب السرديات والعنف الناعم

شكلت حرب السرديات على مواقع التوصل الاجتماعي، نوعا من العنف الناعم على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو الذي أشار في كتاب العنف الرمزي (الصادر في طبعته الأولى عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1994) إلى أن هذه الممارسات عبارة عن عنف ناعم خفي غير مرئي. خفي مجهول من قبل ممارسيه وضحاياه في آن واحد. يتجلى هذا العنف في ممارسات قيمية ووجدانية وأخلاقية وثقافية. يوظف فيها أدواته الرمزية (اللغة، والصورة، والإشارات، والدلالات، والمعاني). يتجلى هذا العنف في ظلال ممارسة رمزية أخلاقية ضد الآخر/ضحاياه. لكن لا تتم هذه الممارسة من خلال عنف مادي وفيزيائي، بل يتحقق بواسطة اللغة، والصورة (الثابتة والمتحركة). وعلى الرغم من أنه يمارس من خلالها حربا سردية، بلا سلاح. لكنه يمارس الرعب والوعيد والقمع، من خلال اللايكات والإعجابات والردود المنفلتة من أي ضوابط منطقية (واقعية). وعلى الرغم من أنه لا يمنع الكلام أو يصادر حريات التعبير كذلك، لكنه يُفرغ الكلام من معناه. لأن حسب تصوره، ليس المهم أن تقول كلاما صادقًا، بل أن تقول ما يُراد لك أن تقوله كي تبقى ضمن الجماعة، كي لا تُنبذ أو تُخوّن. بهذا، تحولت وسائل التواصل الاجتماعي من أدوات فضح وتوثيق، إلى آليات لإعادة إنتاج العنف الرمزي (العنف الناعم).

حرب السرديات والتطبيع مع الكذب

ساهمت حرب السرديات على مواقع التواصل، في قلب الحقائق. حيث أصبح الكذب وطنيا، والحقيقة خيانة. وإذا كان الفيلسوف واللساني نعوم تشومسكي قد وصف الإعلام بأنه آلية دعائية تخدم مصالح السلطة، فإننا اليوم، نعيش لحظة أكثر تعقيدًا. حيث تحول الإنسان نفسه إلى وسيلة للدعاية. فلكل فرد منصة خاصة به، وكل صوت مهما كان، بات قابلًا للانتشار. فساهمت هذه الفوضى في دفن الحقيقة واليقين، لا تحت ركام الأكاذيب فحسب، بل تحت موجات التصفيق (وما أكثر المصفقين) التي تمنح للزيف حياة أطول. يمارسه هؤلاء المزيفون والمتلاعبون بالحقائق الذين لا يرونه تلاعبًا، بل موقفًا نضاليًا وحقيقة موازية. لأنهم يقتطعون من الواقع ما يناسبهم، ثم يعيدون صياغته باعتباره حقيقة نهائية. فلا فرق في هذا الإطار، بين يميني متطرف، أو ليبرالي انتقائي، أو طائفي متعصب، أو رجعي متصلب، أو مثقف يائس بائس…الخ. يساهمون جميعهم في هذا الانهيار الرمزي الذي يجعل من الحقيقة شبحًا هشًا، لا مكان له في وعي الإنسان. ليندمج الكذب والتزييف والتشويه في كل خلية من خلايا مواقع التواصل الاجتماعي. ويصبح قاعدة ضمنية للسلوك الجمعي (واقعي أو افتراضي). هكذا، تغذو الحقيقة في زمن حرب السرديات، فِعلًا نادرًا، وسباحة ضد تيار طوفان السرديات الذي يعصف بالمعنى والحقيقة.

بهذا، لم يعد الكذب الذي خلقته حرب السرديات على هذه المواقع، فعلًا فرديًا محصورًا في النيات السيئة، بل أصبح ظاهرة جماعية تنمو في التربة الخصبة للانتماأت السياسية والأيديولوجية. تتشظى على شاشات الهواتف المحمولة والحواسيب. لتحول الرغبات والهواجس إلى حقائق (مزيفة). تُصاغ بلغة يقينية، وتُبث في كل اتجاه العالم. حتى تحولت وسائل التواصل الاجتماعي، التي كان من الممكن أن تصبح صوت الإنسان المهمش والمقهور، إلى مرآة مشروخة تعكس انقسامات الأفراد والمجتمعات. كما تعكس أشباحا تتجول على هيئة ترندات، محمّلة بما يشتهي الناس لا بما هو واقعي. فيا مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي، “إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة” (الحجرات، الآية:6).

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci