أخبارفي الصميممجتمع

مواقع النفاق الاجتماعي

سعيد بوعيطة (باحث مغربي)

بقلم: سعيد بوعيطة

غيرت التكنولوجيا الرقمية وجه العالم يوما بعد يوم، وأصبح معها حال الإنسان في تبدل مستمر، ساعة بعد ساعة. ومع ازدياد سعي الإنسان إلى الشهرة المزيفة، والمكاسب، والسلطة (المادية أو المعنوية)، تحولت المجاملة التي كانت تميز الإنسان، باعتبارها سلوكا محببا، يبقي حبل الود في العلاقات الاجتماعية قائما، إلى نفاق مكشوف. مما زاد من تفكك أواصر العلاقات الاجتماعية، وشوه صفة المحبة التي تربط بين بني البشر. ومع زيادة انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت في مضمونها وغاياتها غير اجتماعية، بات النفاق الاجتماعي، أمرا ضروريا لمن أراد السير مع ركب المنافقين بوعي أو بدونه. فيتم مدح هذا، والإعلاء من قدره، والحط من قيمة الآخر، من خلال تلك التعليقات والتصريحات، وردود الأفعال، تحقيقا لهدف معين، أو لحاجة في نفس يعقوب. لكن سرعان ما يتغير الوجود، وتتبدل الوجوه، وتسقط الأقنعة، ليصبح التلون الحربائي، والتقلب المزاجي، وتبديل الكلمات، والعبارات بما يتناسب مع المصلحة الشخصية باديا للعيان.

الإنسان، كائن رقمي

تحوَّل هذا العالم الكبير اليوم، إلى عالم صغير بحجم راحة اليد، حين بلغت التكنولوجيا ذروة تطوّرها. فاختزلت العالم في صفيحة ذكية بين أصابع الإنسان. قرَّبت البعيد، لكنها، بعَّدت القريب. وفككت الأسرة والمجتمع على السواء. كما انهارت علاقات حقيقية بسبب الإدمان الإلكتروني، والتواصل الاجتماعي الوهمي. حيث حوَّلت هذه التكنولوجيا بكل أشاكلها التواصلية الإنسان، إلى كائن رقمي بكل المقاييس. يعمل إلكترونيا، ويتسوّق إلكترونيًّا، ويسافر إلكترونيًّا، ويُبدع إلكترونيًّا، ويدرس إلكترونيًّا، ويحب إلكترونيًّا، ويتزوج إلكترونيا، ويتم الطلاق/التطليق إلكترونيا، وينتقم إلكترونيًّا، ويحارب إلكترونيًّا ويتواصل إلكترونيًّا… الخ. فإلى أين نحن سائرون؟ وعن أيّ تواصل اجتماعي نتحدث؟ ومتى سنستيقظ من وهم هذا الإدمان الالكتروني الذي قتل مشاعر الانسان، وسلبه كل شيء، حتى أفقده الإحساس بنفسه وبإنسانيته؟

إذا كان الإنسان كائنًا اجتماعيًّا بطبعه وطبيعته، فَقَدْ فقد هذه الصفة اليوم، حين أصبح كائنا إلكترونيًّا منعزلًا. يُتحَكَّم فيه عن بُعْد، ولا يستطيع أن يَحيد عن الطريق الذي رسمتها له التكنولوجيا الرقمية. يقضي ساعات طِوال أمام الحواسيب واللوحات الإلكترونية دون أن يشعر بالوقت. يتبادل مختلف المواضيع والأسرار بثقة منعدمة النظير مع أشخاص من جنسيات مختلفة، لكنه لا يستطيع أن يكون اجتماعيًّا مع أيّ فرد في المحيط الذي يعيش فيه (الأسرة). لهذا، أنتجت هذه المواقع الاجتماعية المزيفة، جيلًا مزيفًا، لا يقبل واقعه ولا يعترف به، ولا يعيش حياته الطبيعية ولا مستواه الاجتماعي. ينافس المشاهير في الظهور بأحسن الماركات، وفي أشهر المقاهي والمطاعم. ليأخذ صور ”سيلفي” مزورة، ليشاركها مع الناس، دون أن ينسى أن ابتسامته العريضة باردة، وغير حقيقية. لأن حالة الإنسان الطبيعية، يقتضيها المكان والحال الذي هو عليه.

مواقع النفاق الاجتماعي

يفصل بين المجاملة والنفاق خيط رفيع. لهذا، يمكن أن يختلط الأمر على البعض أحيانا، لا سيما، وأن المجاملة تعتمد على الكلام المعسول، والمنتقى بعناية، وعلى الوجه الضاحك المبتسم في حضور الآخرين (الضحكة الصفراء). غير أننا، وفي حال امتلكنا عقلا منفتحا، سنكتشف أن التمييز بين النفاق القائم على المصلحة، والمجاملة القائمة على المحبة، أمر يسير لا يحتاج كثير عناء للتمييز. فإذا افترضنا جدلا أن النفاق ظاهرة منبوذة، سنعلم أن سبب نبذها يكمن في زيفها، وجوهرها الرديء الذي يتسم به أصحابها. فهم يقولون ما لا يفعلون، ويعيشون حياة مختلفة عن الحياة التي يروجون لها أمام الناس. كما يطلقون المبادئ، ولا يلتزمون بها. يتمسكون بك عند الحاجة إليك، ويدفعون بك بعد الانتهاء منك ككلب مجروب، وكأن صلاحيتك قد انتهت. يتظاهرون بالثراء على الرغم من سوء أحوالهم، يظهرون بهيئة، ويستترون خلف أخرى. يبدلون مواقفهم، ومبادئهم تبعا لهواهم، وما تقتضيه حاجاتهم المرحلية، كما يبدلون جواربهم التي تزكم الأنوف. كل هذا وغيره، يتبدى لك وأنت تقوم باسترجاع مختلف رسائل التواصل الاجتماعي. بدء بصورة شخص واحد ممن يحيطون بك على الأقل (أو مجموعة أشخاص). يتسم بالنفاق من خلال محاولاته (محاولاتهم) الحثيثة لإيهام من حوله أن (حجرتو ثقيلة) كما يقول المثل المغربي، وقيمته عالية، وسلطته لامحدودة. ثم لا يلبث أن يكشف بموقف بسيط، ليتجرد من أقواله، وينكشف أمره. فكم من منافق تجمل على الفقراء بفضلة ملابسه، وأطباقه، ومسكنه، وسياراته الفارهة، ومقتنياته.. يتحول المجتمع على إثر هذه السلوكات إلى مجتمع وهمي أجوف، يخلو من القيم الإنسانية التي جبل الإنسان عليها.

مواقع اللاتواصل الاجتماعي

يتبين مما سبق، أن الإنسان اليوم لا يعيش تواصلًا اجتماعيًّا، بل قطيعةً اجتماعيَّة. فما فائدة التواصل مع الغريب إذا كان القريب منا لا يحظى منا بجلسة وُدّ؟ وما فائدة صداقة (عائلة) لا تثمر أخوة عند الشدائد؟ وما فائدة بناء علاقات افتراضية لا تمُتّ إلى الواقع بصلة مع أشخاص غرباء ومعك أشخاص حقيقيون لا تتواصل معهم؟ هذه ليست أسئلة استفهامية، بل تعجبية. لهذا نقول:

أيها الناس، لا تكذبوا على أنفسكم وعلى غيركم، نحن اليوم لا نتواصل من خلال هذا المواقع، نحن نقطع الأرحام، نحن نعيش وهمًا اسمه التواصل الاجتماعي، الذي هو تواصل لا اجتماعي في حقيقته. وإذا تم الاجماع على أن التكنولوجيا بوجهها الإيجابي قد قدَّمت للإنسان خدمات جليلة. حيث نقلته من محدودية الجغرافيا وضِيقها إلى العالمية والكونية، كما طوّرت أسلوب حياته وسهَّلته في كل المجالات، فإنه في الجانب الاجتماعي، قد انساق بشكلٍ سلبيّ خلف وسائل التواصل الاجتماعي، التي تُوهمه بالتواصل مع كل العالم إلا مع  نفسه ومع محيطه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci