
بقلم: زكية لعروسي

في ركن قصيّ من التاريخ، حيث تتعانق ظلال الحضارة مع لهيب الانهيار، ولد رجل لم يكن يشبه زمنه. كان فقيها يتكلم بلغة الحكماء، وفيلسوفا يحمل قلب مؤمن، وطبيبا يرى في الجسد خريطة للفكر، إنه أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، فيلسوف قرطبة، وقاضيها، وآخر الومضات العاقلة في أفق أخذ يظلم.
ابن رشد لم يكن مجرد عقل في مدينة مريضة، بل كان مشروع مقاومة فكرية ضد الانغلاق، دعوة إلى المصالحة بين النص والعقل، ثورة في شكل تأويل، وتأويلا في شكل نجاة.
قال عبارته المشهورة التي هزّت بنيان الفكر التقليدي: “لا تكفير مع التأويل، ولا إجماع مع التأويل.” كان يؤمن أن النص القرآني له ظاهر للعامة، وباطن للعلماء، وأن التأويل هو الجسر الذي يعبر به الفيلسوف من المعنى الحرفي إلى الحقيقة المتعالية. كان يعتبر أن التصادم بين ظاهر النص والعقل الظني لا يكفّر، بل يؤوّل. وأن من يعمل العقل، يزداد قربا لا بعدا.
قال في كتابه فصل المقال: “إن الشريعة حق، والحكمة حق، ولا يضاد الحق الحق بل يوافقه ويشهد له.”
لكن ما إن قدّم العقل على ظاهر النص، حتى اجتمعت عليه السيوف والعمائم.
لكن الفقهاء في عصره، وقد تحالفوا مع السياسة، رأوا في هذا الإيمان بالعقل خيانة، وفي التأويل زندقة. كان في مقدمتهم أبو محمد بن حزم الظاهري، الذي وإن لم يعاصر ابن رشد، مهد لمذهب رفض التأويل. وفي زمان ابن رشد، برز أبو بكر بن العربي المعافري، أحد كبار فقهاء المالكية، الذي أنكر على الفلاسفة بشدة، وقال عنهم: “ما قال أحد من المتكلمين: إن الفلاسفة مؤمنون.” أما القاضي أبو بكر بن طفيل، صديق ابن رشد ومقدّمه إلى الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف، فقد دافع عن العقل، لكنه لم ينج من لهيب الاتهام. وعندما تولى المنصور الموحدي الحكم، انقلب على ابن رشد، وأصدر أمره بنفيه إلى أليسانة، وهي قرية يهودية، وقال عنه بعض الفقهاء في حضرته: “هذا ضال مضل، لا يجوز لمسلم أن يأخذ عنه دينه، ولا دنياه.” وهكذا أُحرقت كتبه في المساجد، وقال عنه الإمام ابن الصلاح: “من تمنطق فقد تزندق.” وقد هاجمه أبو بكر بن الصائغ في رسالته ضد الفلاسفة، قائلا: “إن هؤلاء قد جعلوا عقولهم أندادًا للوحي، وما أولوه فهو تحريف للمعاني، لا هداية فيها.”
ومع ذلك، لم يكن ابن رشد خصمًا للدين، بل كان عاشقا له، مؤمنا بضرورة استخدام العقل لفهم النص. كان يرى أن التأويل هو لغة الفلاسفة المؤمنين، وأن العامة غير مكلفين بالخوض فيه. قال: “الشرع دعا إلى النظر بالعقل، ونهى عن التقليد، فكيف يُفهم إلا بالتأويل؟” لكن العقول تكفّر عندما تخرج الناس من السرديات الجاهزة، والقلوب تحرق إذا حملت مشاعل التفكر. وهكذا، كفّر ابن رشد، وأُهين، ثم مات بعد سنوات قليلة، حزينا مطرودا.
كتب المؤرخ ابن الأبار القضاعي عن نهايته: “ومات أبو الوليد في مراكش غريبا، وقرئت الفاتحة على قبره من غير أن يُعرف أن الرجل كان فيلسوفا عظيما.”
يا للمفارقة.. كتب ابن رشد التي أُحرقت في الشرق، كانت تشتعل نورا في الغرب. ترجمها اللاتينيون، ونهل منها فلاسفة أوروبا، من توما الأكويني إلى سبينوزا، من ديكارت إلى دانتي. لقد أُخمد صوته في قرطبة، لكنه نفخ في رماده بأوكسفورد وباريس. هو الرجل الذي أعاد أرسطو للحياة، وأيقظ الفلسفة من سباتها الكنسي، فزرع في تربة أوروبا بذور عصر الأنوار.
إن السخرية في تاريخ الحضارة هي أن الغرب قد نهض على أكتاف من كفّرهم الشرق. ابن رشد لم يكن متمردا على الدين، بل عاشقا له، يريد له أن يصمد في وجه السؤال، لا أن يتهاوى أمام أول ارتياب. كان يرى أن الدين بلا عقل طقوس بلا روح، وأن العقل بلا دين آلة بلا معنى.
ابن رشد هو ذلك الصوت الذي يهمس عبر القرون: “إذا خيّرت بين عقل يحترق وكتاب يحرق، فاختر العقل، لأنه يعيد كتابة الكتب.” صار يعرف في جامعات الغرب بلقب The Commentator، أي “الشارح الأعظم”.
لقد أعاد ابن رشد للعالم الغربي أرسطو، لكنه أعطاهم ما هو أعمق: احترام العقل، وشرعية السؤال، وقداسة التفكير.
في حين كان شرحه يدرّس في جامعة باريس، كان قبره ينسى في مراكش. كتب عنه المؤرخ ابن الأبار بحسرة:
“ومات غريبا، بعدما ذاب نوره في ظلام الفقهاء.”
نحن اليوم نعيش محنة شبيهة. نحن أبناء زمن تتكرر فيه مآسي ابن رشد: يقصى المفكرون، وتعاد كتابة الدين كحائط صد لا كنهر يجري. في عصر الأجوبة السريعة، يبدو التأويل تهمة، والعقل خيانة، والفكر بدعة.
لكن ابن رشد، كأنه بيننا، يهمس لنا من بين رماد كتبه: “الحق لا يضاد الحق.” ونحن نرد عليه بصمتنا، حين نقصي العقل، ونحتكم للنقل دون فهم. إنه يعلمنا أن الإيمان الذي لا يحتمل السؤال، هو خوف لا يقين. وأن الدين الذي يخشى التأويل، لا يليق به أن يخاطب عقول الناس.
في زمن العنف الديني، والأدلجة، والوصاية على العقول، تظل كلمات ابن رشد صرخة في وجه الجمود:
“التأويل ليس زندقة، بل حياة ثانية للنص.”
يا قرائي الأعزاء، إن أعظم مفارقة في تاريخنا هي أن الغرب بنى نهضته على كتب فيلسوفٍ كفّرناه. وأن الحضارة التي كادت أن تحترق في باريس، أنقذتها شرارات من قرطبة.
ابن رشد لم يدفن في مراكش. لقد دفن في كل مرة خنق فيها التأويل، وسُجن فيها المفكر، وأُغلقت فيها أبواب الاجتهاد. لكنه أيضا يبعث من جديد، كلما فكر أحدنا، وسأل، ورفض أن يركع لغير العقل. إننا لا نحتاج إلى من يشعل النار، بل من ينير الطريق.
فابن رشد… لم يكن مشعلا، بل نارا تمشي على رغم انه مات كفيلسوف غريب في زمن لا يعرف كيف يفهم الفلاسفة، ولا كيف يعذرهم بالتأويل. لكنه، رغم رماد كتبه، أنقذ حضارة كاملة من الغرق، وزرع في أعماق التاريخ درسا لا يُنسى: الفكر لا يكفّر، وإن كفّر صاحبه.
ابن رشد، يا قارئي، درسٌ الذي في عصر يتسابق فيه العالم نحو الذكاء الاصطناعي، وتفتح فيه آفاق العلم بلا حدود. إذ ما زلنا نرى في مجتمعاتنا مظاهر من محنة ابن رشد تتكرر: تكفير الفكر المختلف، وشيطنة التأويل، وإقصاء العقل متى خالف سلطة النص أو سلطة الجماعة. وكأن التاريخ لم يَمُر، وكأن الأندلس لم تحترق بما فيه الكفاية.
إن أعظم دروس ابن رشد هو أن العقل ليس ضد الدين، بل هو شرط لفهمه. وما أحوجنا اليوم إلى من يعيد التوازن بين النص والواقع، بين الثابت والمتغير، بين التقديس والتفكير. لأن الجمود على ظاهر النص في عالم متغير هو أقصر طريق لإخراج الدين من معادلة العصر.
وفي زمن الإعلام الموجَّه، وصناعة الكراهية، وتسييس الفتاوى، يذكرنا ابن رشد بأن التحرر لا يكون بالضجيج، بل بالتأويل، وبأن أقوى الإيمان هو الذي يحتمل السؤال ولا يخافه. إنه رجل حاول أن يبني مجتمعا لا يخاف من استخدام العقل، ولا يختبئ خلف أقوال “الإجماع”، لأن: “لا إجماع مع التأويل.”
وهو ما ينطبق اليوم على كثير من المسائل الجدلية التي يختلف فيها الفقهاء والمجتمعات، من قضايا المرأة، إلى حرية المعتقد، إلى التعامل مع الآخر المختلف.
ابن رشد لم يكن فيلسوفا في زمانه فقط، بل هو مشروع إصلاحي مستمر، كلما أُهمل عادت الأمة إلى عصور الظلام. إنه رمز لمأساة العقل العربي، حين يقتل لأنه يفكر، وينفى لأنه يسأل.
في عالم اليوم، يمكن أن نقرأ ابن رشد لا فقط لفهم أرسطو، بل لفهم أنفسنا: كيف ضاعت منا ثروتنا العقلية؟ وكيف أصبحنا نستورد الفكر كما نستورد السلاح؟
فكل حضارة لا تحمي مفكريها، تعد قبرها بيدها. وابن رشد… ما زال حاضرا، ما دام هناك من يجرؤ على التأويل.






