
بقلم: زكية لعروسي

الرحيل، في ظاهره انتقال، وفي باطنه انكسار. إنه ليس مجرد عبور الجسد من مكان إلى آخر، بل هو خلع للذات من تربتها الأصلية، نزع للمعنى من سياقه، وتغريب للروح عن نبضها الأصيل. الرحيل هجرة صامتة إلى فضاء لا يعترف بالحنين، ونفي للهوية عن مرآتها الأولى. كما قال الحلاج: “أنا من أهوى، ومن أهوى أنا”، فإن المغترب، حين ينتزع من موضع عشقه الأول، لا يعود يعرف من منه بقي، ومن منه ارتحل.
في المهجر، لا تموت اللغة لأنها تنسى، بل لأنها تغترب. تصبح الكلمات كالأجساد المصلوبة في هواء لا يعترف بها، أو كصلوات تهمس في معبد لا يسمعها أحد. حين تقال الكلمة ولا تفهم، تصبح خيانة؛ خيانة للذات وخيانة للتاريخ. كما قال ابن عربي: “كلّ مكان لا يؤنث، لا يُعوّل عليه”. والكلمة، إن لم تجد أنثى التلقي، وإن لم تخصبها الذاكرة، تمسي عقيمة، يتيمة.
وقد تساءل الطيب صالح، في لحظة انكشاف وجودي: “هل أنا ذلك الآخر؟”، سؤال لم يكن محض استفهام، بل مرآة تهشّمت فيها صورة الذات. إنه السؤال الذي يراود كل مغترب، وهو يحدّق في صورته الجديدة: هجينة، قلقة، مقطوعة عن جذورها، كغصن وضع في إناء ماء، فيبدو حيّا وهو في طريقه إلى الذبول.
المهجر ليس مكانا بل حالة ذهنية. إنه وعي بالغياب أكثر منه حضور. يحاصر العقل بأسئلة لا تنتهي، ويحوّل الوجود إلى ساحة اختبار: هل تبقى كما أنت، أم تتشكل من جديد؟ لكن بأي ثمن؟ وهل التغيير ولادة، أم خيانة للماضي؟ هنا يصير الفكر فعلا مقاوما، أشبه بمحاولة الترجمة بين لغتين: لغة الداخل المتجذّر، ولغة الخارج المتسلّطة. وبينهما، يتمزق المغترب، كما تمزق النفري بين المكاشفة والمحو، فكتب: “كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة.”
الغربة ليست مسافة، بل صدع في الوجدان. إنها ثقب أسود يبتلع الإشارات، ويعيد إرسالها مشوهة. جبران قالها بوجع: “لكم لغتكم ولي لغتي، ولكم كلامكم ولي كلمتي.”
إن الكلمة لا تموت حين تنسى، بل حين تُسمع ولا تفهم، أو حين تفهم خارج نسبها الرمزي، فتسجن في معنى لا يشبهها. حينها، تمسي الكلمة غريبة في فم صاحبها، كمن يرتدي قناعا فوق وجهه، ثم ينسى وجهه الأصلي.
وفي غياب الحاضنة الثقافية، يتآكل الإنسان، لا بالضرورة من الخارج، بل من الداخل.
الهوية، كما قال عبد الكبير الخطيبي، “ليست معطى جاهزا، بل جرح مفتوح، وكتابة لا تنتهي.” والمغترب إذ يتنفس بلغتين، يعيش في مكانين، ويتكلم بصوتين، يصبح هو نفسه كتابة لا تنتهي، نصّا يتجاوز ذاته دون أن يستقر في أي تأويل.
وإذا كان أبو العلاء المعري قد قال، في منفى العقل والروح: “إني وجدت بني آدم ملحهم زاد، فكله فاسد الطعم والرائحة”، فإن المغترب أكل من موائد كثيرة، وشرب من أنهار غريبة، لكنه ظل جائعا إلى المذاق الأول، إلى خبز الأم، إلى لهجة الجدة، إلى ظل الجدار الذي شهد صمته الأول.
هكذا، يصير العقل هو الملاذ والمنفى في آن واحد. وكما رأى سقراط، فإن “الحياة غير المفحوصة لا تستحق أن تعاش”. لكن في حالة المغترب، يصبح الفحص وجعا يوميا، وعذابا لذيذا؛ لأن كل محاولة فهم هي أيضا تقشير لجراح الذاكرة. العقل هنا لا يهب النجاة، بل يكشف هشاشة النجاة، ويعرّي وهم الثبات.
أما الكلمة، فهي الجسر الأخير. حين تموت الكلمة، لا يبقى للمغترب شيء سوى الصمت، وحين يصمت، يصير وجوده نفسه موضع شكّ.
ومع ذلك، فالغربة ليست موتا، بل انبعاث مشروط. ليست نفيا مطلقا، بل خلقا جديدا، في العراء. يولد الإنسان من رماده، لا ليعود كما كان، بل ليصير ما لم يكن. كما قال نيتشه: “يجب أن تحمل في نفسك فوضى خلاقة، كي تلد نجما راقصا.” والمغترب، إذ يسير على حافة الهاوية، يحترف التوازن، ويحوّل هشاشته إلى حكمة، وغربته إلى نور داخلي، كما فعل المتصوفة، إذ قال ابن الفارض: “وفي كلّ معنى للهوى أنا حاوي.”
لا يموت المغترب حقّا إلا حين يفقد القدرة على السؤال، وحين لا تعود الكلمات تتسع لروحه. مادام في داخله سؤال: “من أنا؟”، فإن في قلبه شجرة لم تمت، ولو جُرّدت من أوراقها. ومادام صوته يصرخ، ولو بصمت، فإن العالم لم يسلبه كليّا. هو لا ينتمي، نعم؛ لكنه في كل لحظة يعيد تشكيل انتماء أرقى: انتماء إلى المعنى، إلى الحرية، إلى الكلمة التي تنبض، حتى في الظلام.




