بقلم: زكية لعروسي
قلت لنفسي وانا التقظ شظايا أخبار هذا الصباح في جو يغشاه امل محمول بضوء النار ودخان الأحلام المحترقة:
“كفي ايتها السعيدة عن تمثيل المأساة، وأنت عصبها، وفي صميمها. فما عادت طلعة الشمس تغنيك عن زحل وتبدد ظلامه القابع فوقنا، وكل ما يُقال في خطب المتشدقين ما هو إلا طيف كلمات جوفاء تعكس ما يدبّر في الكواليس، خطب هي مرايا مشوهة تعكس ما يحاك في غياب النور. فأين ذلك الزمان الذي كانت فيه الكلمات تقود السامع إلى عوالم سماوية، ترتقي بالأرواح فوق أفق الأحلام المغلقة؟ اليوم نحن أسرى رحلة لا نهاية لها، تغرقنا في ليلٍ الغياب، وما أظن أن الغائبين الراحلين سيبعثون احياء. والحيرة تنهشني، تساءلت:
“أفي طريق تحريرٍ مزعوم لك يا شام، أم في منزلقٍ سحيقٍ إلى جحيم لم نختره ولم نطلبه؟
؟ أم هو طريق ليس فيه ما يلدُّ أو يُغري؟ أم أنها دعوة للهبوط إلى جحيم لا تسطيع السنة اللهب فيه ان تلامس او تنطق باسم العقول المنصفة؟”
لا أزعم أنني عرّافة ولا أدّعي استشراف القيامة بعد الموت، فاللعبة التي تُدار هنا أكبر من شعري وأعقد من سماء الخيال. آهٍ منا نحن البائسون، مكتوفو الأيدي أمام لعبة الجحيم الجديدة. كيف لنا أن نفهم أوراقها، وقواعدها، والقرارات التي صدرت بحق موتاها الأحياء؟
عند النظر إلى التحليلات السياسية حول الوضع في سوريا، يتجلى مشهد يختزل السياسة إلى لعبة شطرنج، حيث يعتبر بعض اللاعبين الخارجيين أنفسهم أصحاب الحق المطلق في إعادة تشكيل المشهد السياسي. هذه الأطراف، مدفوعة بمصالحها الضيقة، تحرك الساحة كأنها لوحة استهلاكية، تُستهلك فيها الشعوب والأوطان لتحقيق غايات عبثية. البيادق هنا ليست سوى البشر الذين يُدفعون للانخراط في صراعات تهدم ما تبقى من الأرض والدماء والأحلام.
وفي هذا السياق، يظهر التساؤل حول دور الولايات المتحدة في بناء “سوريا جديدة”. هل سيكون دورها متسقًا مع المبادئ المعلنة عن الحرية وإعادة الإعمار، أم أنها ستكتفي بدور القوة المهيمنة التي تعيد صياغة الخرائط بما يخدم مصالحها الجيوسياسية؟ السؤال الأهم هو: كيف يمكن للسوريين أنفسهم أن يستعيدوا زمام المبادرة ليكونوا صناع مستقبلهم، بعيدًا عن الأيدي التي تحرك الخيوط من وراء الكواليس؟
لن أفشي الكثير من الأسرار يا قارئي، حتى لا أُدان في محكمة الأشباح بتهمة الكفر السياسي. لكن اعلم أنني أنثى تعرف متى تصمت ومتى تتحمل الثمار المرّة حتى تنضج الطيبة منها. ورغم ذلك، لا أهرب من المدى الضيق، ولا أخشى السهام التي تتطاير من كل صوب.
ولا تسألني عن خفايا هذه اللعبة. لا أملك نبوءةً تخبرك بما ستجلبه الأيام القادمة. لكني أعلم أن العام المقبل لن يحمل سوى المزيد من تقسيمات الجغرافيا وسرقة الهوية. المفاجآت هنا ليست أعياداً، بل طعناتٌ في خاصرة الشرق، وتغييرات تُعيد ترتيب الموت بين الجنة والجحيم الأرضي.
إنها مسرحية لعبة ملعونة تُدار بتقنيات عقول باردة. لكني سأخبرك شيئًا واحدًا: إنها ستحرق الجميع،
أصبحت يا قارئي لا أعرف كيف اضبط سلوكي بين هؤلاء الذين يدّعون الألوهية في السياسة، كنت أظن كغيري أنهم جبلوا لحماية الارض بشرائع تبعدنا عن التطاحن والمنازعات والعنف، فإذا بهم ألسنة تنفث نارًا تحرق الأرض وتطفئ الأمل. كلماتهم دخان يضلل الطريق، وقراراتهم تجعل الناس يرمون أنفسهم في هاوية جهل لا قاع لها. وبين شعراء، ما هم إلا أبواق تُسمعنا جمالاً كاذباً من الغزل. وممثلون ماهرون، يغازلون في قصائدهم ما يحتقرونه في قلوبهم، ويتعبدون في معابد الأنا، بينما يبيعون الوهم بثمنٍ بخس.
إنني في حيرة يا قارئي. بين هؤلاء “الآلهة” وأشباه الشعراء، وجدت نفسي في جحيم أعظم من كل جحيم. لوهلة، خُيّل إلي أن هذا العذاب ليس إلا ذكاءً اصطناعيًا يفتح أبوابه لكل عابر، يدفع من يشاء إلى الهلاك وينجي من يشاء بلا ضابط أو معيار.
أكتب الآن، وريشتي تحترق وسط هذا اللهب من الحيرة. لم أنزل إلى الجحيم مختارة، لكنه ابتلعني كما يبتلع الشرق بأسره. أحاول فهم ما لا يُفهم، بين لهبٍ يشتعل في أرضٍ لا نعرفها وبين آلهة تتصارع لتخلق شرقاً جديداً لا مكان لنا فيه، واقلام ذكورية بلباس التغيير الوهم.
لكنني، رغم هذا التيه، لن أهرب… لأنني إمرأة تتاقلم مع الطقس وتغيراته، دون أن تبيع جبة أجدادها، حتى في رحلة الصيف، والحر، بل تستدعي حكمتهم القديمة، وتتمسك بما تبقى من جذورٍ عميقة تغوص في الأرض، والتي بات أبالسة السياسة يحطمون الأخضر واليابس منها، محاولين هتك سمائها،
أواجه هذا الجحيم بروحٍ ترفض الانكسار. فالنار، مهما اشتعلت، لا تحرق الروح التي تعرف قيمتها. نحن لسنا بيادق تُحركها أيدي خفية. نحن شعوبٌ كُتبت عليها المحن، لكنها تحمل في جوفها إرثاً لا ينطفئ.