أخبارفي الصميمكتاب الرأي

السياسي والخطاب بلا عظم: من منبر الدولة إلى «تراند» السوق

بقلم: زكية لعروسي

في الأزقة والحواري، كما في صالونات الفكر، يتداول الناس فكرة أن “اللسان ما فيه عظم”. لكن أمي خيرة، بحكمتها العتيقة، كانت تردّد دائما: “ولكن خصّ السياسي يْحِيطو بسبعة عظام”. وهي تقصد أن الكلمة، حين تخرج من فم السياسي، ليست مجرد “هدرة” بل فعل وقدوة.

إن السياسي ليس شاعرا يحق له أن يقول ما لا يفعل، بل هو فاعل يجب أن يزن كل ما يقول، ويجب ان يحمل قوة خطابية أصيلة تمزج بين اللغة الشعبية الانيقة، والتفكير النقدي، وصرامة الموقف.

ففي زمن باتت فيه “الهدرة” سلعة، و”التراند” دليلا على الحضور، يخرج علينا بعض السياسيين بخطابات تفتقر للرصانة وتفيض بالسوقية، كأنّهم يتعلّمون الحسانة على رؤوس من وثقوا بهم. وما قالته أمي، تلك الفيلسوفة الشعبية، لا يزال صداه حيا: “وزن الهدرة قبل ما تنطق.. ماشي كل من هضر تكلم.”

فالسياسة ليست ملعبا لمن هبّ ودب، وليست “احسانة لمن باغي يتعلم فريوس القرع”. إنها فنّ الحضور الراقي، فن التأثير بالخطاب الرصين، وليس بالمعيور والسوقية. فمن العيب، بل من الخيانة الرمزية أن ينزل السياسي إلى مستوى الخطاب الشعبوي الفجّ، لمجرد أن يصفّق له الشارع أو تتضخم أسهمه في جرائد الإثارة. السياسي ليس مواطنا عاديا يُسمح له بـ”زلاّت لسان” تبرّر بالغضب أو التسرّع، بل هو حامل لوصاية رمزية، يفترض فيه أن يكون قدوة لا “حلايقي” يتبارى على ناصية الميكروفون. فالكلمة مسؤوليّة، والسياسة فنّ قول الممكن، لا تهريج اللامعنى. حين ينعت سياسيٌ شعبا بـ”الحمير”، فهو لا يخطئ في التعبير فقط، بل يسقط أخلاقيا، ويجر الخطاب السياسي إلى حضيض التهكم والشتم، والتفوه بتعابير لا تليق لا بالمنصب ولا بالمغاربة.

“اللسان ما فيه عظم”، هكذا يقول المثل المغربي، لكن السياسي يجب أن يحيط لسانه بعظام من الحكمة والرزانة. لا يجوز له أن يترك لسانه طليقا كالسائق في “سوق التراند”، لا فرامل ولا ضوابط، يضرب هنا وهناك، ثم يتراجع بكلمات باهتة لا تداوي جرحا ولا ترد كرامة.

نحن لا نطلب من السياسي أن يتكلم بلغة خشبية. بل نطلب منه أن يتكلم بلغة موزونة، أن “يْزَيّن الهدرة”، وأن يعرف بأن كل كلمة مسؤولية. ومن لا يملك ما يقول فليصمت، فـ”السكوت عن الكلام غير المباح” شجاعة، لا عجز. والسياسي الحقيقي، كما قال أرسطو، “هو الذي يعرف متى يتكلم ومتى يسكت“.

إن السياسي، حين ينحدر إلى خطاب الشارع الفج، ويستبيح الرموز الشعبية من موقعه الرسمي، يصبح خطرا على الذوق العام، وعلى صورة الدولة، وعلى الوعي الجماعي. كيف لسياسي يُفترض فيه أن يُجسّد الحكمة واللباقة أن يسمح لنفسه بنعت المواطنين بما لا يليق؟ وكيف لمواطن بسيط أن يثق بمن ينعته بالحمار أو يهاجمه إذا خالفه الرأي؟ ليس من الحكمة أن نمارس السياسة بلسان منفلت، بل لا بد أن نعي أن “الهدرة فن، والسياسة فن أكبر”.

لسنا ضد التواضع في السياسة، لكننا نرفض اختزالها في التهريج أو سبّ الخصوم. التواضع الحقّ لا يعني الانبطاح اللفظي، ولا يعني أن السياسي يهبط بمستوى الخطاب إلى قاع التفاهة ليكسب تصفيق العابرين. السياسة مسؤولية وفنّ تعبير راق، لا ساحة لـ”المعيور” ولا سلاحا لمن لا مشروع له.

قال القدماء إنّ السياسة ميدان لا يصلح فيه من لا يجيد وزن الكلام، فكم من كلمة أسقطت منتخبا، وكم من هفوة لفظية أضرّت بشعب أكثر من قرار اقتصادي خاطئ. السياسي الذي لا يملك لسانا منضبطا، لا يملك قلبا واعيا، ولا نية صافية.

لقد قال القدماء: “إذا أردت أن تعرف أخلاق رجل، فاسمع حديثه”. والسياسي، أول ما يحاكم عليه هو لسانه. هل هو خطاب يحترم الناس؟ هل يزرع الثقة؟ هل يبني أفقا؟ أم هو مجرد تهريج وشتائم وسباق نحو التفاهة؟ الغريب أن البعض يرى في “السوقية” شعبوية ناجحة، لكن الواقع أن الشعب المغربي أذكى من أن يخدع بمسرحية الكلام المجاني.

السياسي الحق، هو من ينزل إلى الناس بالتواضع والرقيّ في آن. التواضع لا يعني الانبطاح، ولا يعني أن نجاري “القاع” لنصعد. بالعكس، الصعود يكون بترقية الخطاب، وفتح الأفق، لا بإطلاق اللسان. فالكلمة في السياسة لا تلقى عبثا، بل تبنى كما تبنى القوانين والمواقف. وقد قيل في فن السياسة منذ القدم، كما قال كونفوشيوس: “احكم بلدك كما تطبخ سمكة: بلين لا بتهور”.

فهل يصح لمن يزعم تمثيل حزب بأكمله أن يقف على منابر المؤسسات ليطلق ألسنة السباب والشتائم، وكأن الخطاب السياسي أصبح مجرد جرعة تهييج؟

إننا، في عصر الانكشاف الكامل، لا نملك ترف التستر وراء الأقنعة. الكلمة تُسجل وتُحفظ، والتاريخ لا يرحم. والمغاربة ليسوا رعاعا حتى يخاطَبوا بكلام لا يليق حتى بجلسات المقاهي. المغاربة أبناء حضارة عريقة في البيان والفصاحة، في الزجل والفكر، في الشعر والدبلوماسية.

فـ”اللسان ما فيه عظم” نعم، لكنه قادر على أن يهدم ما لا تهدمه الجبال، أو أن يبني جسور الثقة بين الشعب وممثليه. فلنُحيط ألسنتنا بعظام من ضمير، من أدب، من حكمة. لأن السياسي، حين يتكلم، لا يمثل نفسه، بل يمثل شعبا وتاريخا وأملا.

لنذكر أنفسنا بما قاله القدماء: “إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب”، لكن في السياسة، الكلام من أمانة، والصمت من وعي. فيا من تمثلون الناس، تكلّموا بقدر من تمثلون، ولا تجعلوا من خطاباتكم نكتا يتداولها الناس لا لبلاغتها بل لسوقيتها. “لسانك حصانك، إن صُنتَه صانك وإن هُنتَه هانك”. فصونوا ألسنتكم، لأنكم إن هُنتم، هان خطاب السياسة، وهانت صورتها في أعيننا.

إنّ أثر الخطاب السياسي لا يقف عند حدود البرلمان أو الميكروفون، بل يتسرّب إلى الذاكرة الجماعية، ويعيد تشكيل وعي الأجيال القادمة. فحين يُفرّط السياسي في اللغة، يُفرّط في تربيةٍ غير مباشرة لجيل يصغي، يسجّل، ويقلّد. الطفل الذي يسمع سياسيا يشتم، لا يسمع مجرد زلة، بل يتعلّم أن العنف اللفظي مقبول إذا جاء من فم السلطة. والمراهق الذي يرى السياسيين يتبادلون “المعيور”، يكتسب تصورا مشوّها عن النقاش، الديمقراطية، والحوار.

إنّ السياسة، حين تفقد أُبّهتها اللغوية، لا تفقد فقط هيبتها، بل تغدو نموذجا خطرا، يبرّر الانحدار ويُطبع مع السطحية. لذلك، فإنّ السياسي لا يمثّل صوت ناخبيه فقط، بل يفتح نوافذ في عقول أولئك الذين لم يصوّتوا بعد. هو مُعلّم غير مباشر، وصانع للممكن والمأمول، أو لليأس والانفصال.

السياسي، حين يتحدث، لا يمارس حقا فقط، بل يمارس مسؤولية؛ فاللسان إذا خلا من العظم، وجب أن يُثقل بالحكمة. وإلا، فكل كلمة ساقطة من فمه، ستسقط معه في ذاكرة الشعب.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci