أخبارفي الصميمكتاب الرأي

المغربوفوبيا في فرنسا: حين تُجمّد العقول وتُغضّ الأبصار عن الحقيقة الصارخة عن عنصرية صامتة تُمارس ولا تُقال

بقلم: زكية لعروسي

في قلب الجمهورية الفرنسية، حيث تتغنّى الدولة بشعاراتها الخالدة “حرية، مساواة، إخاء”، تتآكل هذه القيم بصمت عندما يتعلق الأمر بالجالية المغاربية، هنا لا نجد عنصرية صريحة تُقال، بل حالة من “التواطؤ الصامت” تجاه فئة ساهمت في بناء فرنسا الحديثة، لكنها لا تزال تختزل في صور نمطية مقلقة: العنف، التطرف، التهميش، الفشل الدراسي، أو “الآخر الدخيل”.

فمن الإسلاموفوبيا إلى المغربوفوبيا هناك طيف ممتد للتحامل المؤسسي. ما يعيشه المسلمون في فرنسا تحت مظلة الإسلاموفوبيا -من تضييق على الرموز الدينية وربط مستمر بالإرهاب- يتقاطع مع تحامل آخر أكثر خفاء: المغربوفوبيا. هذه ليست مجرد شعور سلبي عابر، بل منظومة فكرية وإعلامية وسياسية ممنهجة، تغذّيها بقايا عقل استعماري يرفض الاعتراف بندّية المغاربي.

فرنسا، التي اعتمدت لعقود على اليد العاملة المغاربية لإعادة بناء نفسها بعد الحرب، لا تزال، عن قصد أو جهل، تسجن هذه الفئة في قوالب دونية، وترفض تحديث صورتها رغم التحولات الواقعية المذهلة.

المؤسف أن هذه النظرة تتناقض كليا مع الحقيقة، والواقع المعاكس للسردية الرسمية: المغاربة، والمغاربيون عموما، ليسوا فقط جزءا من النسيج الفرنسي، بل من محرّكاته الأساسية. من المستشفيات إلى الجامعات، من المخابر العلمية إلى كواليس السياسة والفن، نجد أسماء مغاربية تكتب تاريخ فرنسا الحديث:

-الدكتور رشيد اليزمي، أحد أبرز العلماء في مجال بطاريات الليثيوم، مغربي، من جامعة مغربية، حصل على أوسمة علمية في فرنسا وخارجها.

-الكاتبة ليلى سليماني، المغربية الأصل، تتربع على عرش الأدب الفرنسي الحديث، وتحظى بتكريم رسمي من الإليزيه.

وهؤلاء، ليسوا استثناءات، بل نماذج صارخة لما يمكن للعقل المغربي والمغاربي أن يقدّمه حين يُمنح الفرصة. فنتناسى ، مع الاسف، أن المغربي اليوم يرفع العلم الفرنسي في الطب، في الرياضيات، في الهندسة، في المسرح، في الفلسفة، بل حتى في السياسة.إذ توجد اليوم آلاف الكفاءات المغاربية في دهاليز المؤسسات الفرنسية: أساتذة جامعيون، أطباء مرموقون، فلاسفة، سياسيون، فنانون… كثير منهم يرفعون علم فرنسا جنبا إلى جنب مع علم أوطانهم الأم. ومع ذلك، يتم تجاهلهم عمدا في المشهد الإعلامي لصالح الترويج لصورة مغاربية سلبية، تقتصر على الضواحي والعنف والهشاشة الاجتماعية.

إن الواقع الذي يرفضه الكثيرون أن الجامعة المغربية والمغاربية تمدّ فرنسا بخيرة عقولها، وتمدّ جسدها الاقتصادي بالطاقة والمهارة. السؤال الذي يطرح نفسه من يصنع الصور؟ الإعلام أم السياسة؟

التمثلات السلبية لا تتشكل من فراغ. تلعب وسائل الإعلام الفرنسي دورا محوريا في ترسيخ هذه الصور النمطية، بتكرارها اللامتناهي لحوادث معزولة، وتضخيمها، وتجاهل النجاح المغاربي. هذا التحيّز لا يخدم فقط الإثارة الإعلامية، بل يتحوّل إلى ذخيرة انتخابية لنخب سياسية تعيش على تأجيج الخوف من “الآخر”، وتستخدم الخطاب الهوياتي لتصعيد اليمين المتطرف.

اللوم لا يقع على فرنسا وحدها، بل على غياب صوت رسمي مغاربي وترك الجالية وحيدة. الدول المغاربية، التي تفتخر بجالياتها عند الحاجة، فشلت في بناء استراتيجية شاملة للدفاع عن صورتها خارج حدودها. فالدبلوماسية الثقافية غائبة، والدعم الإعلامي هزيل، والسياسات المرتبطة بالمهجر لا تتجاوز الاحتفالات الموسمية والرسمية.

ما يميز المغربوفوبيا أنها لا تقال، بل تمارس. تترجم في سياسات توظيف تقصي، وتغطيات إعلامية تهمّش، ونظرات مجتمعية تجرّد المغاربي من كفاءته وإنسانيته. هي عنصرية لا تحتاج إلى صراخ، بل تكفيها الهمسات، القوانين المبطنة، وتجاهل الإنجازات.

آن أوان الاعتراف، ليس المطلوب من فرنسا أن تعتذر، بل أن تعترف بأن المغاربة ليسوا فقط جزءا من حاضرها، بل من مستقبلها. أن تتجاوز عقدة “الهوية المحاصرة” نحو اعتراف بتعدديتها الحقيقية.

الأدهى من ذلك قارئي الكريم، هو ما يطلب من المغاربة والجالية المغاربية: أن “يحمدوا ويخجلوا”. أن يخفوا أعلام أوطانهم، أن يكتموا فخرهم، أن يتصرّفوا كـ”ضيوف مؤقتين” في وطن باتوا جزءا من نسيجه منذ عقود. فالخطاب الفرنسي ما زال يصرّ على تصوير المغاربة كعبء أو كأجساد مهاجرة تبحث عن “فُتات أوروبا”. لكن لماذا يطلب من المغربي أن يخجل من جذوره، بينما الفرنسي المقيم في المغرب أو بلدان عربية اخرى يتمتع بكامل حقوقه، ويفتخر بهويته، دون أن يطلب منه “التأدب”؟

نحن لا نطلب معروفا، بل نطالب بالعدالة الرمزية والمادية. نطالب بأن ينظر إلى الجالية المغاربية لا كعبء، بل كشريك. لا كأداة اقتصادية، بل كفاعل ثقافي وفكري. المطلوب اليوم ليس فقط التصدي للعنصرية، بل قلب المعادلة: لا دفاعا عن الذات، بل فخرا بها. لا تبريرا للوجود، بل تأكيدا عليه. لا الحديث عن الاندماج، بل عن المساهمة. المغاربيون ليسوا ضيوفا، بل أبناء وطنين، آن الأوان أن يقال بوضوح: كفى من علاقة المركز والمحيط. كفى من احتقار من يساهمون في بناء فرنسا الحديثة. نحن لسنا هامشا ثقافيا، ولسنا ملاحق حضارية لباريس، بل شركاء حقيقيون في نهضة هذه الأمة. نحمل علم وطننا بفخر، ونرفع العلم الفرنسي في المجد العلمي والثقافي والمهني. فلا وصاية بعد اليوم، ولا خجل من الانتماء.

إن اخطر ما في التمييز العرقي والثقافي الممنهج أنه لا يُصرَّح به بوضوح، مما يجعله أكثر خطورة، لأنه يمارس في الصمت، ويؤثر على فرص العمل، التمثيل، والاندماج.

إن مواجهة هذه الظواهر تتطلب خطابا جديدا، لا يدافع فقط عن الدين، بل عن كرامة الإنسان المغاربي وهويته الكاملة، بما فيها مساهمته في الثقافة الفرنسية، وقدرته على بناء جسور لا جدران.

المغربوفوبيا ليست مجرد نزعة عنصرية، بل مرآة مشروخة لفرنسا. كلما تجاهلت هذه المرآة، زاد شرخها. وكلما نظرت فيها بصدق، أدركت أن ملامحها الجديدة لا ترسم من دون المغاربي. فهل تتجرأ فرنسا على النظر؟

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci