أخبارفي الصميمكتاب الرأي

الكتابة كألم نبيل: أقلامنا المهجّرة والمؤسسة المحمدية بين الجسر الملكي وواجب الاعتراف

بقلم: زكية لعروسي

الكتابة ليست مهنة، إنها صليب. وليست ترفا، بل قدر يتوارثه المبدعون كما تتوارث الأشجار جذورها في باطن الأرض. هي وجع لا يشفى، صراخ في وجه التجاهل، وعناد ضد النسيان.

منذ أن رفع أبو العلاء المعري صوته في العزلة، وفي صمته أيضا، كان يُنقّب في عمى البصيرة عن نور الحقيقة، لا يطلب مكافأةً، كان الألم طريقه، لا اختيارا بل التزاما أخلاقيّا. المعري كتب من داخل زنزانة روحه، لأنه أدرك أن الحقيقة لا تطلب إلا من خلف القضبان.

ثم المتنبي كتب بحدّ السيف لا جاء المتنبي، حاملا “الأنا” المتورّمة، لا كغرور، بل كستار كثيف يخفي نزيفا داخليا لا يراه إلا من تلمّس وجعه بين السطور. كان ينشد الملوك، لا طمعا في ذهبهم، بل صداما معهم، يحاورهم بحدة الفارس، لأنه إنما كتب بالدم لا بالحبر.. ثم جاء درويش، المصلوب على خريطة ممزقة، يكتب ليوقف الموت، لا ليصفّق له. ومن هناك، على ضفاف القرن العشرين، مرّت قوافل من الأنبياء العراة بالكلمات. درويش، المصلوب على خريطة ممزقة، قالها بوضوح: “أنا آتٍ لأُوقف هذا الموت”. أنسي الحاج كتب مثل من يصرخ في صحراء، يسأل ولا ينتظر جوابا. كافكا، وحيدا في براغ، مات قبل أن يرى العالم يفهم وحشته. ودستويفسكي  الكائن المريض بالأسئلة، جعل الألم رواية، والرواية خلاصا جزئيّا من جحيم الفكرة. كلّهم كتبوا من الشقوق، لا من الشرفات. واليوم، نحن في المنافي: نكتب من داخل البرد، من داخل الجوع، من داخل الخيبة. نكتب في أوطان تسمع ولا تصغي، تنظر ولا ترى.

الكتابة ليست سيرا ذاتية تُودَع في مكاتب الوزراء، بل سيرة نزيف طويل. الكفاءة ليست ورقة نُوقّعها في ملف، بل أثرٌ حيٌّ نراه في الحقول الثقافية، في الترجمة، في الشعر، في الفكر، في المساءلة… في مَن إذا كتب، أنار.

ما نحتاجه اليوم ليس موظفين باسم الأدب، بل مثقفين يُحيون الرحم المعرفي، يتذكّرون أن الثقافة المغربية وُلدت من رحم الزوايا، من صوت ابن رشد، من فكر المختار السوسي، من عتمة عبد الكبير الخطيبي، من هدير محمد عابد الجابري، من حِلم عبد الله العروي

إننا نكتب بالمهجر وحولنا مجلس جالية أصبح ملاذا للموظفين، لا للكتّاب. تدار الثقافة فيه كما تدار ملفات التأمين الصحي: نماذج، أختام، ولجان باردة. فأي ثقافة تلك التي تُختزل في مهرجان، أو تعلّب في تقرير سنوي؟ وأي معنى أن تكتب وأنت تعلم أن الجملة لا تدفئ بيتا، ولا تفتح بابا، ولا تحمي من تهميش؟ نحن نكتب لا لنتسلى، بل لنداوي. نكتب لا لنُزيّن وجه الوطن، بل لنغسل دمه.

حين تحدّث صاحب الجلالة الملك محمد السادس عن الثقافة كجسر بين مغاربة الداخل والخارج، لم يكن ذلك نداء بروتوكوليا، بل وصية ملك يرى في المعرفة خلاصا وطنيا. كانت دعوته لبناء مؤسسة حقيقية، لا واجهة وهمية. مؤسسة ترعى الفكرة، تحتضن الموهبة، وتعيد الاعتبار للعقل المغربي المهاجر. مؤسسة لا تخشى المثقف حين يكتب بمرارة، بل ترى في مرارته بوصلة.

إن المؤسسة المحمدية، بما تحمله من رمزية شريفة، يجب ألا تكون مجرد إدارة، بل بيتا للفكر وحرمة للكلمة. لا نريدها كنسخة مكررة من مؤسسات تجيد الاحتفال وتفشل في البناء. نريدها ملاذا لا مرآة للزبونية، صوتا لا صدى للمحاباة.

إنها وديعة فكرية وروحية، تحمل على عاتقها مهمة ترميم الوجدان الثقافي والعلمي، لا التلاعب به. إنها مرآة للوصية الملكية، لا مكان فيها لمن يرون المناصب فرصا، بل لمن يرونها مسؤولية تُثقل الكاهل، لا تملأ الجيب. فالمشكلة ليست في نقص الطاقات، بل في تغييب الكفاءات الحقيقية.

ما نحتاجه اليوم ليس “موظفين باسم الأدب”، بل مثقفين يُضيئون عتمة المنفى، ويواصلون النحت في الذاكرة المغربية. نريد من يقود المؤسسة لأنه قرأ الوطن من الداخل، لا من قرأ سيرته في دفاتر العلاقات. لا نريد لجانا تجتمع على أوراق، بل تفتح صدورها لأسئلة الكتّاب. لا نريد منصات خشبية، بل جسورا حقيقية. نريد أن يصل الشاعر بالخبز، لا بالتصفيق. أن يصل الفيلسوف بالحوار، لا بالمجاملات.

المؤسسة المحمدية ينبغي أن تكون جسرا حيّا، لا جدارا صامتا. ينبغي أن تصل العالِم بالناشئ، الكاتب بالطالب، الفيلسوف بالحيّ الشعبي، الشاعر بالخبز، لا بالمنصات فقط. من يقودها يجب أن يُجيد الإصغاء قبل الخطابة، والإنصات قبل التعيين.

وهنا، لا مكان لمحاباة، ولا لعلاقات الولاء العائلي أو السياسي. الثقافة المغربية بالمهجر اليوم في مفترق طرق، والمطلوب هم رعاة للفكر، لا حرّاس على الأبواب. المثقف اليوم لا يطلب مكرمة، بل شراكة حقيقية في صياغة وجدان الوطن. ومتى كانت الثقافة بالمهجر ترفا؟ إنها شرط وجود.

إن لم تحتضن المؤسسة المحمدية هذه الكفاءات، وتترجم نداء صاحب الجلالة إلى سياسة واضحة، شفافة، عادلة، فإننا نخشى أن تُعيد تكرار مأساة مؤسسات سابقة تحوّلت إلى جزر معزولة عن عمق الوطن، لا إلى جسور نحلم بها، ومنفتحة على طاقات الجالية..إنها ستعيد إنتاج الفشل ذاته الذي همّش المبدع، وأقصى المفكر، ورفع موظف الثقافة فوق الثقافة ذاتها.

نحن لا نطلب صدقة، بل اعترافا. لا نطلب حضنا هشا، بل سقفا معرفيا. لا نريد شعارات، بل مسارات. لا نريد مهرجانات استعراضية، بل حوارات مستمرة، فضاءات تعبّر عن وجدان المهاجر، لا تسوّقه كمنتَج سياحي. نريد من يسكن في اللغة، لا من يسكن فوق كرسيّها. فهل تسمعوننا؟ هل من مسؤول يقرأ هذا النص كصرخة، لا كنصّ بلاغي؟ هل من مؤسسة تمتلك الشجاعة لتحتضن مَن يكتب بدمه لا بحبره؟

الكاتب لا يموت، لكنه يُقصى. وحين يُقصى المثقف، يتيه الوطن في ظلال الجهل المنمّق. فإما أن نبني مؤسسة تكون جسرا كما أرادها جلالة الملك، أو ندفن حلما آخر تحت ركام الخطب.

نحن نريد من يزرع لا من يقتطف. نريد من يحفر في التراب، لا من يكتفي بالتنظير. نريد سقفا رمليّا يحمينا من شمس التهميش، لا مركزا ثقافيا مغربيا وهميا لا وجود له ولا بناية..نحتاج إلى أفق معرفيّ لا يحده منصب.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci