إلغاء شعيرة الذبيحة قرار ملكي بحكمة اقتصادية من رحم التاريخ: الإسلام والتعامل الواقعي مع الأزمات

 

 

 

بقلم: زكية لعروسي

لم يكن الإسلام يوما دين تشدد أو جمود، بل هو دين يراعي الظروف والمتغيرات، وقد شهد التاريخ الإسلامي مواقف عديدة تم فيها تقديم المصلحة العامة على التطبيق الحرفي للأحكام، تماما كما فعل الملك اليوم برفع المشقة عن المواطنين”هاد القرار الملكي ماشي بدعة، بل كاين في تاريخنا الإسلامي بزاف ديال الأمثلة اللي تبين بلي الشريعة كاتراعي الواقع الاقتصادي ديال الناس، وماشي عبادات”:

عام الرمادة في عهد عمر بن الخطاب:

حين اجتاحت المجاعة بلاد المسلمين، أوقف عمر حد السرقة لأن الناس كانوا يسرقون من الجوع وليس من الفساد، وقال قولته الشهيرة: “لو كان الفقر رجلا لقتلته”، وهذا يثبت أن التشريع لا يمكن أن يكون بعيدا عن الواقع المعيشي للناس.

إيقاف الحج في فترات الأوبئة والمجاعات:

على مر التاريخ الإسلامي، أوقفت فريضة الحج في بعض السنوات بسبب الأوضاع الصحية والاقتصادية، رغم أنها ركن من أركان الإسلام، لأن الحفاظ على الأرواح والمصلحة العامة أولى.

الاقتصاد الوطني بين ضغط العادات وحكمة الترشيد:

بعيدا عن البعد الاجتماعي، يحمل هذا القرار أيضا أبعادا اقتصادية عميقة. فعدد كبير من الأسر المغربية تبذل جهدا استثنائيا لشراء الأضحية، مما يؤدي إلى خلق طلب غير طبيعي في السوق، يُسفر عن ارتفاع الأسعار بشكل يفوق القدرة الشرائية لعدد كبير من المواطنين، كما يُشكل ضغطا على الموارد المتاحة. بعد العيد، تجد العديد من الأسر نفسها غارقة في الديون، وهو ما يُسهم في حالة من الركود الاقتصادي، حيث يتركز الإنفاق خلال فترة قصيرة بشكل غير متوازن، ما يؤدي إلى تراجع القدرة الاستهلاكية للأسر في الأشهر اللاحقة.

علاوة على ذلك، يساهم القرار الملكي في حماية صغار مربي المواشي، الذين يعتمدون بشكل أساسي على بيع الأضاحي، إذ يسهم في تنظيم السوق وتقليل العشوائية، مما يضمن استقرارا أكبر في الإنتاج والتوزيع على المدى البعيد. وفي هذا السياق، نجد أن الدول المتقدمة مثل نيوزيلندا وإسبانيا تعتمد أنظمة إنتاج ذكية تُراعي الطلب الحقيقي، مما يسمح بتحقيق التوازن بين الاستهلاك والاستدامة، دون إهدار للموارد أو خلق تقلبات اقتصادية غير محسوبة.

إن القرار الملكي هنا يأتي بمثابة “ضربة معلم”, إذ يساعد على خلق توازن في السوق، ويضمن استقرار الأسعار، ويحمي القدرة الشرائية للمواطنين على المدى الطويل. يقول المثل الشعبي: “ما شي كل ما يلمع ذهب”، فليس كل من اشترى أضحية قد أدى الشعيرة كما ينبغي، ولا كل من عجز عن ذلك قد فاته أجر العيد. إن التكاليف المرتفعة لشراء الأضاحي تُلقي بثقلها على الأسر المغربية، حيث يضطر البعض إلى الاقتراض، أو بيع ممتلكات ضرورية، أو حتى التخلي عن حاجيات أبنائهم من أجل الوفاء بعادة اجتماعية أكثر منها دينية.

هذا الضغط لا يقتصر على الأفراد فقط، بل يؤثر على الاقتصاد ككل، حيث يؤدي الطلب الكبير على الماشية إلى ارتفاع الأسعار بشكل غير منطقي، ما ينعكس على باقي المنتجات الغذائية، ويؤدي إلى اضطرابات في الأسواق.

العيد فرحة وليس عبئا ماليا، وليس مجرد أضحية، بل هو مناسبة للتواصل الاجتماعي والتكافل بين الأسر، وكما يقول المثل: “الرضا بالمكتوب هو الراحة”، فمن لم يستطع شراء الأضحية، فليحتفل بالعيد في حدود إمكانياته، وليفرح مع عائلته، ويتصدق بما يستطيع، فالمقصد من العيد ليس في عدد الكباش المذبوحة، بل في مشاعر التقوى والإحسان.

هذا القرار، شأنه شأن العديد من المبادرات الملكية التي تهدف إلى التخفيف من معاناة المواطنين، لا يقتصر على كونه مجرد تدخل سياسي، بل يُجسد درسا عميقا في كيفية تحقيق التوازن بين الدين والاقتصاد والسياسة. فهو يؤكد أن مصلحة المواطن تأتي في المقام الأول. فالمغاربة يقولون: “الزين ماشي في اللباس، الزين في العقل والراس”. والقرار الملكي اليوم هو مثال حي على هذا المثل، إذ أثبت أن العيد لا يجب أن يكون عبئا ماليا يثقل كاهل المواطنين، بل مناسبة للفرح والتلاحم الاجتماعي بعيدا عن الضغوط.

إن الذكاء الحقيقي لا يكمن في التمسك الأعمى بالعادات والتقاليد دون اعتبار للواقع، بل في القدرة على التكيف معها بما يضمن الكرامة ويحفظ التوازن الاقتصادي. وهذا بالضبط ما يعكسه القرار المولوي، إذ يضع الأسس لمقاربة أكثر عقلانية وعملية، تحترم القيم الدينية، لكنها في الوقت ذاته تراعي الظروف الاجتماعية والاقتصادية، بما يحقق العدالة والاستدامة.