رشيدة داتي في العيون.. ذكاء المغرب أمام أقزام دبلوماسية الجعير

 

 

 

بقلم: زكية لعروسي

في صحراءٍ تتداخل فيها الريحُ بالرمل، وتنسج الشمسُ خيوطا من ذهب على كثبانِها الممتدة، جاءت زيارة رشيدة داتي لتكتب فصلا جديدا من فصول العلاقة بين باريس والرباط. خطوة بدت كأنها نقش على صخر، حيث تداخلت الرمزية مع السياسة، والهوية مع الجغرافيا، فكانت كالإزميل الذي يعيد تشكيل معالم المشهد المغاربي.

ما بين السرابِ والحقيقة، تظلُّ الصحراءُ شاهدا صامتا على صراعٍ عمره عقود. فرنسا التي طالما راوغت بين حياد محسوب ومواقف ضبابية، ألقت اليوم بثقلها في ميزان السيادة المغربية، واضعة حدا لمرحلة من التردد. لقد جاءت كلمات داتي في العيون كنبضٍ قوي، يعلن أن “المستقبل هنا، تحت السيادة المغربية”، فكان التصريحُ كريح صحراوية تدفع الرمالَ نحو رسم خريطة جديدة.

لم تكن زيارة داتي مجردَ رحلة دبلوماسيةٍ محايدة، بل كانت فعلا ثقافيا يضرب جذوره في الجغرافيا السياسية. افتتاح فرعٍ جديدٍ للتحالف الفرنسي في العيون لم يكن مجرد مبادرة تعليمية، بل كان بمثابة وضع حجر الأساس لجسر ثقافي بين باريس والرباط، حيث تكون الثقافة أداةً ناعمة لصياغة الاصطفافات السياسية. زمن ثقافة تتكلم بلغة السياسة

لم يكن في وسع القوة الضاربة في السراب ان تقابل هذه الخطوة بصمت. فالتاريخ شاهد على أن كل تغير في الموقف الفرنسي يولّد رياحا جديدة في العلاقات الجزائرية-الفرنسية. وما بين موسكو وبكين، تبرز الجزائر كمن يعيد ترتيب أوراقه، في معادلة حيث يكون لكل خطوةِ دبلوماسية أثرُها العميقُ في موازين القوة. لتمسي الصحراء رقعة الشطرنج الكبرى

إن هذه الزيارة لم تكن مجرد محطة عابرة. بل جاءت كحجر ألقي في بركة راكدةٍ. فالصحراء لم تكن يوما مجرد امتداد جغرافي، بل لطالما كانت رهانا على النفوذ، وامتحانا للحلفاء، وساحة لتداخل المصالح. فرنسا، إذن، لم تعد تقف عند التخوم الرمادية، بل حسمت أمرها بوضوح يتجاوز التصريحات الرسمية ليصل إلى قلب الفعل السياسي.

في هذه الأرض الممتدة بين البحر والرمل، تتشابك الخطوط، وتتداخل المصالح، ويتغير وجه السياسة كما تغير الرياحُ ملامحَ الكثبان. ما بين المغرب وفرنسا، وبين الجزائر وحلفائها، تظل الصحراءُ أكثر من مجرد جغرافيا: إنها معركةُ رموزٍ، وساحة نفوذٍ، ومرآة تعكس منطق القوة في عالمٍ يعيد رسم ملامحه بلا توقف.

في صحراءٍ تُنقش فيها المواقف كما تُنقش الرمال، برهن المغرب مرةً أخرى على أنه “اللي عندو الصح ما يحتاجش يبرر”. زيارة رشيدة داتي للصحراء الغربية لم تكن مجرد تحرك سياسي، بل رسالة قوية تُقال فيها الأمور بصراحة: “اللي خسر المشيط يقول الشعر اشعث ولا راس معوج”. فالصحراء ساحة الفعل لا الصياح

منذ عقود، والمغرب يدير ملف الصحراء بحنكة تشبه “اللي يحرث الأرض يعرف رزقه فين”، بينما لا تزال دولة التبحليط والصياح وحلفاؤها يصرخون في فراغ لا يسمعه أحد. فبينما تعمل الرباط بخطوات مدروسة وتحركات ذكية، يقتصر رد الفعل الجزائري على “جعجعة بلا طحين”، حيث لا مشروع حقيقي، ولا رؤية واضحة سوى العناد السياسي.

افتتاح فرعٍ جديدٍ للتحالف الفرنسي في العيون لم يكن مجرد حركةٍ ثقافية، بل كان “الضربة اللي ما تقتل تزيد تقوي”. فالرباط تفهم أن العمل الميداني هو مفتاح النجاح، بينما تُفضِّل بعض العواصم الاكتفاء بالتصريحات المتشنجة. وهكذا، يواصل المغرب ترسيخ حضوره بينما يكتفي خصومه بالصراخ في الفراغ. إنها الدبلوماسية الهادئة في مواجهة “الجعير”

الرباط تدرك أن “من أراد أن يُطاع فليطلب المستطاع”، لذلك تحافظ على دبلوماسية متزنة، تعتمد الفعل بدل الانفعال. بالمقابل، يصرُّ خصومها على أسلوب “الجمل ما يشوف حدبته”، متناسين أن العالم تغيَّر، وأن الشعارات القديمة لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

المغرب اختار الثقافة كسلاح: “اللِّي عندو باب واحد، الله يسدّو عليه”، ليعلن نهاية اللعبة: “الكلب ينبح والقافلة تسير”

لا مجال للعودة إلى الوراء. المغرب ماضٍ في طريقه بثبات، يُنجز ولا يلتفت للضجيج، في حين يصرُّ خصومه على “النفخ في قربةٍ مثقوبة”. وما بين مشاريع اقتصادية، وتحركات دبلوماسية، واستراتيجيات ثقافية، تثبت الرباط أن “الهدرة ما تشري خضرة”، وأن العمل الملموس هو الذي يفرض نفسه على الأرض.