بقلم: عبد الدين حمروش

وصفت صفقة ترامب، بتهجير سكان غزة، بالمجنونة. معظم قادة العالم، إضافة إلى أغلب المحللين السياسيين، اعتبروها خطة للتطهير العرقي، حتى من داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، ومن داخل دويلة الكيان الاحتلالي. ورأوا في الصفقة المقترحة دلالة على تدهور العقل السياسي الأمريكي، إن لم تكن الغاية الخبيثة منها خلق نوع من الابتزاز السياسي للعرب، على أساس قاعدة: إلغاء التهجير في مقابل تخلي الفلسطينيين عن حلم الدولة.
إنها صفقة مجنونة، وغير قابلة للتطبيق، من قبل رئيس نعت بالمغرور، والمريض بالعظمة. وما يزيد الوضع تعقيدا وخطورة، في ظل تهديداته بالاستحواذ على دولة كندا، وممر بنما، وجزيرة غرينلاند، هو غياب مستشارين أقوياء لهذا الرئيس، كما يرى الصحافي الأمريكي طوماس فريدمان. ذلك، لأن من شأن وجود مثل هؤلاء في كابينته، لو وجدوا في الواقع الحالي فعلا، أن يحذروه من مغبة خطة الاستحواذ هاته، وبالتالي يرذعوه عن أمر تنفيذها. ببساطة، الجميع بات يدرك أن لخطة السيطرة على غزة عواقب وخيمة، من شأنها أن تعصف بالعلاقات الدولية، والسلم في العالم من جهة.. وأن تؤثر بالسلب على صورة أمريكا المتزنة، قائدة “العالم الحر”، من جهة ثانية.
كيف سيتم تهجير سكان غزة؟ وكيف ستسيطر الولايات المتحدة على القطاع؟ وممن ستشتريه، وسكان غزة رافضون للصفقة، وهم خارج طاولتها أصلا؟ وبأموال من، سيتم تحويل الأرض إلى ريڤييرا الشرق الأوسط؟ وكيف سيؤثر ذلك على التوازن الديمغرافي الهش (بين الأردنيين والفلسطينيين) في المملكة الهاشمية؟ وما تداعيات ذلك السلبية الخطيرة على الأمن القومي لمصر؟ ثم ما مدى حجم الاضطرابات التي ستندلع في مختلف بقاع العالم، بعد نقل مشاهد التهجير القسري للغزيين؟ كل هذه الأسئلة، يمكن التغاضي عن الإجابة عنها حالا، في هذه المقالة. لكن، وبالمقابل، لنركز على فرضية سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على غزة، التي لا يدعو إليها إلا المتطرفون من جهتي اليمين الأنݣليكاني واليمين الصهيوني، حتى الآن.
إن افتراض الاستحواذ على القطاع، وساحله الغني بالغاز، سيجعل دولة الولايات المتحدة، الواقعة في الأقاصي البعيدة من قارة أمريكا، على تماس حدودي مع الشرق الأوسط العربي. ولعل من تبعات هذا الاستحواذ المنظورة، الناتجة عن المجاورة لدولة الكيان في الشمال، ولدولة مصر في الجنوب، عبر ولاية “غزة الأمريكية”، أن يكون من حق واشنطن الانضمام إلى مؤتمر القمة العربي، وإلى مجلس التعاون الخليجي (مثلا). من يحول دون ذلك؟ وبرفقة دويلة الكيان، يمكن أن يكون الوصول إلى الشرق الأوسط الجديد قد تحقق (بدل الشرق الأوسط العربي). ومثلما تعلن عن نيتها في السيطرة على على قناة بنما، لم لا تفكر الولايات المتحدة في السيطرة على قناة السويس، والملاحة في البحر الأحمر، وفي الأخير الحؤول دون تمدد طريق الحرير؟ ألم تظل تصريحات ترامب، في أغلبيتها الساحقة، تركز على فرض الرسوم على السلع الأجنبية أولا، وعلى ضرورة التملص من أداء رسوم العبور ثانيا. أما محاصرة إيران، وهي على مرمى حدودها، لحماية ابنتها اسرائيل، فقد غدت أمرا واقعا؟
لا تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية إلى السيطرة على غزة، وبالتالي على الحدود مع مصر وجيرانها العرب. ربما يقول بذلك قائل، يرى في وجود الأساطيل الأمريكية سيطرة فعلية على مياه البحر الأحمر، ومياه البحر المتوسط. كما قد يقول بذلك من يرى، في وجود القواعد العسكرية، سيطرة ملموسة على الأرض والجو في المنطقة. غير أن يصل الأمر إلى أن تكون للولايات المتحدة الأمريكية أرضا بالمنطقة، فسيعصف بكل التوازنات والاستراتيجيات، الموضوعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى جميع المستويات، إلى الأبد. لقد سموا الخطة (أو الصفقة) ب”التفكير خارج الصندوق”. ما يثير الإعجاب بالغرب، على الرغم من إمبريالته وجشعه، هو قدرته على الإبداع في تسمية الحروب والوقائع والخطط بأسماء دقيقة (ولو أنها مخاتلة)، بحيث لا تبدو دالة إلا وفق ما يستهدفون الوصول إلى تحقيقه. بالفعل، ما يقترحه ترامب هو خطة بعيدة عن إطار التفكير من داخل الصندوق. ولكن، أي صندوق؟ أليس صندوق العقل؟ صندوق الحق؟ صندوق السلم؟ صندوق التاريخ؟