الاكتئاب في المجتمع المغربي: من زمن البساطة إلى عصر التعقيد

بقلم: زكية لعروسي

الاكتئاب لم يعد مجرد مرض فردي يعاني منه شخص معزول، بل أصبح ظاهرة تتسلل إلى حياتنا اليومية، تترك أثرها على الأفراد والمجتمعات. هذا المرض الصامت الذي كان نادر الحديث عنه في الماضي، تحول اليوم إلى محور أساسي للنقاشات الاجتماعية والصحية في مجتمعاتنا العربية. ولكن لماذا الآن؟ وهل هو حقًا وافد جديد على حياتنا، أم أنه كان دائمًا حاضرًا تحت قشرة الصبر والتحمل التي ميزت أجيال آبائنا وأجدادنا؟

لو عدنا إلى زمن مضى، إلى تلك القرية المغربية أو العربية التي تزينها بيوت الطين والحياة الهادئة، لوجدنا أن الناس رغم قسوة الحياة كانوا يعيشون بنوع من الرضا الداخلي. لا أدوية مضادة للاكتئاب ولا جلسات علاج نفسي، لكن كانت هناك أدوات اجتماعية ونفسية فطرية تقوي الروح: جلسات السمر، الغناء الجماعي، العمل التعاوني في الحقول، والموروث الشفهي الغني بالحكم والأمثال.

من منا لا يتذكر المثل الشعبي «الصبر مفتاح الفرج»، الذي كان يعطى كدواء نفسي لكل من ضاق به الحال؟ أو «اللِّي فاتْك بليلة فاتك بحيلة»، الذي يشجع على التكيف والمرونة؟ هذه الأمثال كانت بمثابة فلسفة حياة تفتح للناس أبواب الأمل بدل الاستسلام.

لكن الزمن تغير، ومعه تغيرت أدواتنا في مواجهة الصعاب. انقلبت معادلة الحياة من البساطة إلى التعقيد، وأصبحت وتيرة العيش أسرع، حتى العلاقات الاجتماعية تراجعت أمام زحف التكنولوجيا، بينما العزلة أصبحت واقعًا مؤلمًا.

في الدراسات الحديثة، نجد أن الدول الأوروبية مثل فرنسا تسجل نسبا مرتفعة من الاكتئاب مقارنة بدول جنوب أوروبا مثل إسبانيا وإيطاليا. تفسير هذا التفاوت قد يكمن في دور العائلة والعلاقات الاجتماعية المتينة في المجتمعات الجنوبية، حيث يجد الإنسان دائمًا ملاذا في دفء الأسرة.

وفي مجتمعاتنا العربية، رغم أن العائلة ما زالت تلعب دورًا محوريًا، إلا أن الضغوط الاقتصادية، البطالة، غياب الفرص، وتقلص الأفق المستقبلي للشباب جعلت الاكتئاب يتفشى كالنار في الهشيم. لم يعد الأمر مجرد لحظات حزن عابرة، بل تحوّل لدى الكثيرين إلى إحساس دائم بالعجز والإحباط. فهل فقدنا وسائل المقاومة القديمة؟

حين نتأمل ماضينا، نجد أن القوة الحقيقية لأجدادنا كانت تكمن في مجتمعهم المتماسك، في طقوسهم الجماعية، وفي قدرتهم على تحويل كل مناسبة صغيرة إلى احتفال يعيد للحياة معناها. لكن في عالم اليوم، حيث باتت التكنولوجيا تشغل مساحة كبيرة من حياتنا، أصبحت العلاقات الافتراضية تحل محل العلاقات الحقيقية، مما عزز الشعور بالوحدة والعزلة.

يقول المثل «لي ما عندو كبير يسال على صغير»، وهو تذكير بقيمة الحكمة التي تسكن قصص الكبار وتجاربهم. ربما يكون الحل في العودة إلى بعض هذه القيم المنسية:

-إحياء الأنشطة الاجتماعية الجماعية مثل الأعراس التقليدية والمهرجانات الشعبية.

-التقليل من الاعتماد المفرط على التكنولوجيا، وإعادة بناء جسور الحوار داخل العائلة.

-تشجيع التعبير عن المشاعر في بيئة آمنة، بدل كبتها خلف أقنعة الصبر المرهق.

الاكتئاب ليس مجرد مرض نفسي، بل مرآة تعكس واقعًا معقدا نعيشه جميعًا. لكن الحلول ليست مستحيلة. بإعادة الاعتبار لجذورنا، وإحياء القيم التي كانت تحمينا يوما، يمكننا أن نصنع درعًا ضد هذا المرض الصامت. لن يكون الطريق سهلا، لكنه بالتأكيد يستحق المحاولة.