التراث الأمازيغي: إرثٌ يستحق الرفع والإشعاع

بقلم: زكية لعروسي

آه يا “ينّايِر”، كما كانت ترددها أمهاتنا في صخب الحياة البسيطة وأهازيج الاحتفال. بين دفء الموائد وعبق الفواكه الجافة، وبين أطباق الحريرة والثريد بالدجاج البلدي، كنا نعيش لحظات لا نعي عمقها ولا ندرك قيمتها. كانت تلك الطقوس تمر بنا ونحن أطفال ومراهقون دون أن نتساءل: لماذا “يناير”؟ ما سر هذا الاحتفال الذي يبعث الدفء في قلوبنا؟ اليوم، حين نستعيد شذرات هذه الذكريات، نجد أنفسنا في مواجهة سؤال جوهري: ما الذي قمنا به من أجل رفع قيمة التراث المادي وغير المادي الأمازيغي في مغربنا؟

صحيح أن الاحتفال بـ”يناير” أو “إيض يناير”، بما يحمله من رمزية عميقة وارتباط بالزراعة والتجدد، يعكس جزءا من الثقافة الأمازيغية. لكن، هل الاحتفال وحده يكفي للحفاظ على إرث غني كهذا؟ قطعا لا. الأمازيغية ليست مجرد طقوس موسمية أو عبارات تُقال هنا وهناك. إنها هوية متكاملة من لغة وفن وحضارة تمتد جذورها في عمق التاريخ، ومطلبنا اليوم أن يكون هذا الإرث حيا، نابضا، ومُشعّا على أرض الواقع.

لطالما كانت الأمهات والجدات ينقلن لنا عبر الأمثال الشعبية حكمة الماضي وبلاغته. ما زلت أذكر قول أمي خيرة: “اللِّي ما عندُو أَصلْ، كيف غايْعرفْ الفصل؟” هذا المثل الشعبي يُذكّرنا بأن من لا يعتني بجذوره، لا يستطيع أن ينمو ويتطور. اليوم، ونحن نرى بعض محاولات الالتفات إلى الثقافة الأمازيغية، نسأل أنفسنا: هل هذه الجهود كافية؟ أم أنها مجرد مظاهر سطحية لا تصل إلى عمق الهوية الثقافية؟

رغم الجهود المبذولة، يبقى التعليم الأمازيغي في وضع لا يرقى إلى مستوى الطموح. تدريس اللغة الأمازيغية في المدارس الابتدائية خطوة هامة، لكنها تبقى محتشمة. يجب أن تصبح الأمازيغية جزءاً لا يتجزأ من المناهج الدراسية، ليس فقط كمادة، بل كوسيلة لتعريف الأجيال الناشئة بتراثهم الحقيقي. يقول المثل المغربي: “اللِّي كَيبْني فالصِّغَر، كَيَربحْ فالكْبَر”، وهذا ينطبق تماماً على تعليم الأمازيغية الذي يجب أن يُبنى على أسس قوية منذ الصغر.

وأين هو الفن الأمازيغي اليوم؟ أين موسيقى الراحل رويشة التي كانت تخترق قلوبنا وتجمعنا وصوت حادة أو عكي الشامخ كجبال الأطلس المتوسط؟ أين المسرح، الأدب، والسينما التي تُبرز الأمازيغية كجزء لا يتجزأ من النسيج الثقافي المغربي؟ للأسف، لا تزال الثقافة الأمازيغية تُعامل كضيف عابر في المشهد الفني، بدلا من أن تكون ركيزة أساسية.

إن إنشاء متحف وطني للتراث الأمازيغي أصبح ضرورة ملحّة. ليس فقط لتوثيق التراث المادي من أدوات وأزياء وتحف، بل لإحياء الثقافة غير المادية من طقوس وأغانٍ وأساطير تُنقل عبر الأجيال. يقول المثل: “اللِّي فَقَدْ الذاكْرة، فَقَدْ الروح”، فكيف لنا أن نبني مستقبلا مزدهرا دون أن نحافظ على ماضينا؟

لا يمكن إنكار العناية المولوية التي وجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله للثقافة الأمازيغية، سواء من خلال ترسيم اللغة الأمازيغية أو دعم الاحتفالات. لكن التحدي الحقيقي يكمن في ترجمة هذه الرؤية الملكية إلى سياسات عملية وملموسة. نحن بحاجة إلى خطط تنموية تُعزز من حضور الأمازيغية في كافة القطاعات: التعليم، الإعلام، السياحة، والفن.

الأمازيغية ليست إرثا لفئة دون أخرى، بل هي جزء من الهوية المغربية الجامعة. نحن جميعا مسؤولون عن حمايتها والاعتزاز بها. “اللِّي ما يْزرَعْ الحَبّ، ما يْحْصدْ المَحَبّة”، فلنزرع هذا الحب في نفوس الأجيال القادمة عبر تعليمهم واحترامهم لهذا التراث العظيم.

الاحتفال وحده لا يكفي، ولن يضمن استدامة الأمازيغية. نحن بحاجة إلى إرادة قوية، ووعي جماعي، وسياسات تُنزل هذا الإرث من رفوف الرمزية إلى أرض الواقع.