الهجرة ليست خيارًا…

بقلم: زكية لعروسي

الهجرة ليست خيارًا، بل هي جزء من ناموس الطبيعة. فالأسماك، حين تضيق بها أماكنها في البحر، ترحل بحثًا عن ماء أرحب، والغزلان تقطع الصحارى والمروج لتحيا. الإنسان، كغيره من الكائنات، يهيم بحثًا عن حياة أفضل، لكنه وحده يُلام حين يضطر إلى الارتحال، وكأن تحركاته تحدٍّ لقوانين وضعتها قوى أكبر منه، لا ترحم.

ما يؤلم في هذا المشهد ليس مجرد الترحال، بل الكلمات التي تُلقى على المهاجرين كما تُلقى الأحكام. المهاجر المثقف، حين يصل إلى بلد الاستقبال، يُصدم حين يُطلق عليه لقب “مهاجر”، رغم أن الكلمة تبدو بريئة في ظاهرها. لكن، حين نقارنها بلقب “ابن الجالية” الذي يُمنح للمهاجر الأوروبي، نرى ازدواجية لغوية تُجسّد واقعًا صارخًا: “حلال علينا، حرام عليكم.”

حتى نحن، في أوطاننا، لم نكن بمعزل عن هذه التصنيفات. في حديثنا عن من رحلوا طلبًا للرزق أو هربًا من قسوة الحياة، نردد عبارات مثل “الناس ديال برا” أو “الزماكرية”، كلمات تحمل في طياتها ظلالًا من التمييز، وكأن الهجرة نفسها وصمة. تساءلت طويلًا: لماذا هذه النظرة؟ لماذا تبدو الهجرة عبئًا حين تتعلق بفقراء الجنوب، بينما يُنظر إليها بإعجاب إذا كانت من نصيب الشمال؟

الإجابة تكمن في الاقتصاد، ذاك المحرك الخفي الذي يُعيد تشكيل مصائر البشر. الفقر، كما الزلزال، يهز الجذور، ويجبر الناس على الانتقال بحثًا عن الأمان والاستقرار. وبين أروقة ذاكرتي، عدت إلى أواخر سبعينيات القرن الماضي، حين عصفت بالمغرب عواصف سياسية واقتصادية، امتزجت فيها هموم الداخل بآثار الجوار الجزائري، لتلقي بظلالها الثقيلة على آلاف العائلات.

في ذلك الزمن، عرفت بيوتًا حملت أسماء لا تزال محفورة في ذاكرتي: “دار عمي احميدة”، “دار موتوس”، “دار حورية”، وتسمية واحدة عالقة بعمق في وجداني: “دار المهاجرين”. كنت طفلة صغيرة حينها، لا أفهم معنى هذه التسمية. هل هي لقب فرضته الظروف أم اسم يحمل قصة؟

جاءت أمي، خيرة، لتكشف لي الحقيقة: “هؤلاء مغاربة قبايل، اقتُلعوا من جذورهم وطُردوا من أرضهم في الجزائر.” كلماتها كانت أشبه بشقّ في جدار طفولتي. تابعت: “حتى دار عمي احميدة ودار موتوس كانوا كذلك.”

لكن لماذا حظيت عائلة واحدة باسم “دار المهاجرين”؟ الإجابة، كما أدركت لاحقًا، كانت الفقر. الفقر هو ما يُلقي بالإنسان على الهامش، يحوله إلى شبح يحيا بلا هوية أو فرصة. بعض العائلات استطاعت أن تتأقلم، أن تبني من جديد، أن تستثمر وتُعيد تشكيل حياتها. أما أهل “دار المهاجرين”، فقد ظلوا غارقين في بؤسهم، يحاربون شظف العيش على حافة المجتمع، كما كانت أمي تقول بأسى: “عايشين على السكة.”

ورغم ذلك، وسط هذا البؤس القاتم، كانت هناك شعلة مضيئة. أهل “دار المهاجرين” حملوا عزة نفس وكبرياء يكسران الصورة النمطية. ثلاث عائلات تعيش تحت سقف واحد، تتقاسم الفتات بروح من الأخوة والتضامن. كان بيتهم ضيقًا، لكنه ممتلئ بالكرامة، كأنهم أرادوا أن يُثبتوا للعالم أن الفقر قد يسلبهم الكثير، لكنه لن يسلبهم شموخهم أو جذورهم الممتدة في عمق التاريخ.

اليوم، أستعيد اسم “دار المهاجرين”، لا كوصمة، بل كرمز للنضال. الهجرة، كما علّمتني الطبيعة، ليست نهاية الطريق، بل خطوة نحو البقاء. من قاوموا البؤس والشتات لم ينكسروا، بل أصبحوا شاهدًا حيًا على قوة الإنسان حين يواجه أعاصير الحياة، تمامًا كما تفعل الأسماك حين تبحث عن بحارها الواسعة.