أي جنون يدفع لمحاسبة جماجم لا حول لها ولا قوة؟

بقلم: زكية لعروسي

 

قديماً، حدث ان كانت القبور ميداناً للصراع بين القوى السياسية المتصارعة، وليس فقط مكاناً لدفن الموتى وتكريمهم. فقد أورد لنا ابن الأثير وابن خلدون في مصنفاتهم أخباراً عن أفعال تُفزع النفوس وتأبى الأخلاق والدين أن تقبلها، كان أبرزها ما فعله العباسيون عند اعتلائهم الحكم بنبش قبور الأمويين، إلا قبر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، الذي نجت جثته من ذلك المصير الشنيع.

بعد النبش، لم يكتف العباسيون بإخراج رفات الموتى، بل جلدوا الجثث وأحرقوها وصلبوها، كأن الموت لم يكن نهاية بل بداية لصراع جديد حتى بعد الفناء. هذه الأفعال بررتها السياسة والتشفي، لكنها تقف شاهداً على جنون السلطة الذي يدفع أصحابه لتجاوز كل حدود الأخلاق والدين، حيث الشريعة الإسلامية التي حرموا باسمها تلك الأفعال نفسها، ترفض نبش القبور والتمثيل بالجثث تحت أي ذريعة.

إنّ كلّ الأديان السماوية، بلا استثناء، حرمت التمثيل بالموتى ونبش القبور، فالإنسان حرمة في حياته وموته. وقد أكد الإسلام على حرمة الإنسان حتى بعد رحيله، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كسر عظم الميت ككسره حياً”، إشارة واضحة إلى قدسية الجسد الميت.

ومع ذلك، يبدو أنّ التاريخ، الذي كان شاهداً على مثل هذه الأفعال، يعيد نفسه اليوم. ففي سوريا، حيث استشرى العنف إلى درجات مرعبة، نشاهد مجدداً مشاهد لنبش قبور الموتى والتمثيل بجثثهم. هذه الممارسات ليست فقط انعكاساً لوحشية عميقة الجذور، بل هي تحدٍّ مباشر للدين والأعراف والقيم الإنسانية. إنها لحظة تقف عندها الإنسانية لتسأل نفسها: أي جنون هذا الذي يدفع البشر لمحاسبة جماجم لا حول لها ولا قوة؟

إنّ أفعالاً كهذه، مثل نبش القبور، تعيدنا إلى مشاهد تاريخية مثقلة بالعار والوحشية. وكأنّ الجولاني ومن معه، في تصرفاتهم اليوم، يعيدون فصولاً سوداء من تاريخ العباسيين، حيث لم تكن الجثث سوى وسيلة لفرض الهيمنة النفسية والسياسية. إنّ التشابه الكبير بين تلك المشاهد يثير سؤالاً مرعباً: كيف وصل الحال بأحفاد تلك الأمة التي قيل عنها “خير أمة أخرجت للناس” إلى أن يعيدوا تلك الأفعال التي حرّمها الدين وأدانها العقل؟

لو كان التاريخ كائناً حياً، لوقف مذهولاً أمام عبثية الإنسان وإصراره على تكرار أسوأ ما في ماضيه. وكأننا في مسرح عبثي، تُعيد فيه الأجيال تمثيل مشاهد عنف وكراهية تتوارثها من كتب الأولين. إنّ المشهد في سوريا اليوم، حيث تُدكّ القبور ويُخرج الموتى، يبدو وكأنه فصل جديد في ملحمة الجنون الإنساني الذي لا ينتهي.
إنّ نبش القبور ليس مجرد فعل عنف موجه ضد الموتى، بل هو رسالة للعالم بأن الحقد والكراهية قد بلغا أقصى مداهما. وهو أيضاً تحدٍّ لكل ما تمثله القيم الإنسانية والدينية، وكأنّ من يمارسون هذه الأفعال يقولون للعالم: لا حدود لجنوننا.

فلنتذكر أن الأمم التي نبشت القبور وأهانت موتاها، مهما علت وتسلطت، سقطت في نهاية المطاف في هاوية التاريخ. ويبقى السؤال قائماً: هل نتعلم من التاريخ، أم نصرّ على أن نكون عبيداً لأحقادنا، نكرر أخطاء الماضي حتى النهاية؟