بقلم: محمد طواع*
لم تكن مسالة الجامعة منفلتة من اهتمام عباقرة الفكر الفلسفي، ذلك أن أجواء الحياة الجامعية تمثل جزءا مهما من حياتهم. ويعود هذا الاهتمام إلى فهم خاص للفلسفة وللعلم بصفة عامة ولمهامهما في كل عصر من عصور الحقيقة بما هي حقيقة الوجود. ويشتد هذا الإنهمام في اللحظات التي تعرف فيها المعرفة والعلوم والسياسة والعالم تحولات وتحديات.
لكن ما معنى التفكير فلسفيا في الجامعة؟
خلافا للموقف التقني الذي تبقى مقترحاته في مجال البنيات المادية للجامعة ضرورية، التفكير في قضية الجامعة من داخل روح الفلسفة يعني أن يكون إصلاح الجامعة مستلهما لهذه الروح، بمعنى أن ينهض على رؤية شمولية لمختلف أشكال العلوم والتخصصات المعرفية المختلفة والمتنوعة وللعلاقات الممكنة فيما بينها وكذا لأدوار الجامعة.
مقاربة سؤال الجامعة من منظور فلسفي يعني أننا لا نختزل الأمر في انشغالات البيداغوجيا، وإنما من منظور شروط إمكان التفلسف أو إعمال الفكر كالسؤال والنقاش والمحاججة والنقد، وهي في مجموعها عناصر أدب الوقاحة الفكرية في معناها النبيل. ذلك أن الفكر يخرج عن كل طريق مألوف، مبدعا لنفسه دروبا للتأمل بشكل مغاير.
تفيد هذه المقاربة كذلك ضرورة النظر إلى الجامعة بوصفها مجتمعا يختزل النظام الاجتماعي بمنظوراته المتعددة وتمثلاته وصراعاته وسياسة الرقابة والضبط، وهو الوضع الذي جعل عباقرة الفكر المحدثين والمعاصرين منذ كانط، يكابدون معه إشكالية السلطة السياسية والسلطة المعرفية. ذلك لأن هاجسهم هو استقلالية الفكر عن كل رقابة. من هنا ذهبوا إلى أن لا إمكان لهواء أو ماء للفكر والإبداع إلا في إطار مؤسساتي ضامن للاستقلالية. لذلك يشهد تاريخ الجامعة على جدلها الخاص فيما يتعلق بالهندسة السياسية للمعرفة ولمنتجيها ولمسؤولية الجامعة أمام الدولة والمجتمع وتاريخ المعرفة.
باستحضار وضعنا الراهن نتساءل: من منظور الفلسفة، متى كانت الجامعة، في جوهر ماهيتها، مؤسسة لتحويل المعرفة أو العلم إلى مهنة؟
قبل طرق الوضع الراهن للجامعة المغربية كسؤال فلسفي، نستمع بشكل مختصر لحديث بعض الفلاسفة عن الجامعة.
1- الجامعة من موقف فلسفي:
أ-موقف ايمانويل كانط:
في نهاية القرن 18 أصدر كانط كتابا بعنوان: “تضارب كليات الجامعة”، وكان هذا الإصدار مرتبطا بحدث كبير عاشت تداعياته الحياة الجامعية، ويتمثل في تنصيب فريدريك جيوم الثاني على رأس الدولة وفي القرار الذي اتخذه في حق الحياة الجامعية. يحكي كانط في عين الكتاب، أن قرار رئيس الدولة الجديد، أحدث انقلابا على الروح النقدية التي كانت امتدادا لفكر الأنوار آنذاك، كما تسلم كانط، في نفس الوقت رسالة تنبيهية خاصة: فحوى القرار والرسالة هو الدفاع عن الأصولية الدينية. ترجمت سلطة هذا القرار في صدور قانونين، الأول يمنع كل كلام نقدي حول الدين، والثاني يحد من حرية الصحافة. وفي مقاومة لهذين القرارين، اتخذت الفلسفة على لسان كانط موقفا من هذا الموقف من حرية الفكر والصحافة، من خلال إصدار الكتاب المشار إليه من طرف كانط. فكان للموقف الكانطي الجريء تبعات: لما أصدر هذا المفكر مؤلفه “نقد العقل العملي” تم حظر الجزء الثاني من كتاب “في حدود العقل”.
بهذا الموقف شهدت الفلسفة عما لحق الحياة الجامعية من تضارب وتدافع في المواقف والرؤى بصدد العلم والمعرفة التي تليق بالشعب الألماني.
في كتاب “تضارب كليات الجامعة” دافعت الفلسفة عن مبدأ الحرية، وخاصة حرية الفكر والرأي. بهذا المؤلف يدافع كانط عن الجامعة باعتبارها فضاء للبحث عن الحقيقة العلمية وحقيقة الأخلاق.
يفترض كانط بأنه في لحظة التضارب في الرؤى بالشكل الذي لا يطيقه العقل، وخاصة حول السؤال من هم “أهل العلم”؟ الذين لهم الأهلية لتقديم الأجوبة التي ينادي بها زمانهم، يكون أهل الفلسفة في مواجهة العاصفة بحكم أنهم ورثة فكر الأنوار.
في ظل هذا الوضع المضطرب في الجامعة، دافع كانط بقوة عن ” الاستقلالية الفكرية” وفق ما تدعوا اليه الأنوار. غير أن كانط كان واعيا باللعبة، بحيث أنه ذهب إلى أن الأمر يقتضي وجود دولة مستنيرة توفر الحماية للوعي الإنساني من الانغلاق.
ب- موقف فريدريك نيتشه:
شهد نيتشة على التحولات التي عرفتها أوروبا منتصف القرن 19 على إثر الثورة العلمية والتقنية في مجال التعليم، بحيث عرفت هذه اللحظة حركة ” تعميم التمدرس”، وما آل إليه ذلك على مستوى التعليم الجامعي. فكان رهان السؤال آنذاك هو: “الحضارة والثقافة” إلى أين؟
نعرف أن الثورة التقنية والعلمية منذئذ برزت كإرادة قوة فرضت ميلاد مؤسسات تعليمية جديدة على هامش الجامعة، وهي مدارس التكوين التقني الصناعي.
تابعت الفلسفة على لسان نيتشه هذه التحولات على مستوى مفهوم التكوين والتربية ذي التوجه التقنو- مهني، معتبرا أياه “انحطاطا للثقافة”.
لاحظ نيتشه في مؤلفه “مستقبل مؤسساتنا التعليمية” (1872)، أن هذه اللحظة من التاريخ عرفت بروز جيش من الأطر يتهافت على تقديم الأجوبة بدون سؤال وبشكل مبتذل. وقد ساعد على انتشار الابتذال، التوسع الذي عرفه قطاع الصحافة آنذاك.
اعتبر نيتشة أن هذا الصنف من الأطر التقنية، الذين وظفت الصحافة من أجل لفت الانتباه لوضعهم الاعتباري في عالم الشغل، هم مجرد “عبيد لعالم الصناعة”، وفي مقابل ذلك تم تبخيس الاشتغال على القيم العليا الإنسانية وحصل نوع من الاستلاب للأستاذ الجامعي الذي أصيب بموقف “الكتش”،على حد تعبير الروائي كونديرا، وهو الموقف الذي يداري فيه صاحبه الوضع ويسايره، وكأن الانسان في هذا الزمان تحول، بلغة هيدجر، إلى ” قن مسخر” . لذا كانت أسئلة نيتشه في هذا المؤلف، ما الهدف من التربية؟ ما دور النخبة؟ ما الشروط الممكنة للثقافة؟ في وضع انتشرت فيه على هامش الجامعة مدارس ومعاهد تشتغل بالتكوين الصناعي والمهني والتجارة. هذه المدارس شوشت على أدوار الجامعة وعلى مفهوم المعرفة والثقافة، وكانت وراء ميلاد مفهوم “الإطار المؤهل” الذي تمجده الصحافة باعتباره المطلوب في السوق.
اعتبر نيتشه أن هذا الزمان هو زمن الابتذال أو انحطاط الثقافة. من هنا كانت أسئلته من جديد عن دور التربية وشروط إمكان الثقافة من خارج الابتذال وعلاقة كل ذلك بالسلطة؟
اتخذ نيتشه موقفا مما أصاب علم الجامعة والثقافة من ابتذال، ونادى بأن الترياق الممكن لتجديد روح الشعب يكمن، من جهة، في الرجوع إلى عبقرية الإغريق ، وفي هذا الإطار جاءت دراسته عن التراجيديا الإغريقية، ومن جهة ثانية، في إعادة النظر، بالمطرقة، في المتداول من المفاهيم المبتذلة عن الثقافة والتي تسير بالأمور نحو التنميط. وتساءل في الأخير: هل ماهية الجامعة تختزل في إنتاج الأطر التي تحتاجها الدولة وعالم المقاولة أم أن ماهيتها تكمن في شيء آخر؟ بهذه الأسئلة وغيرها حاولنا أن نقارب انهمام الفلسفة بسؤال الجامعة باعتبارها فضاء للبحث عن الحقيقة، الفضاء المنهمم أهله بأنطولوجية الراهن.
1-3 موقف هيدجر:
أهل الفلسفة يعرفون انشغال هذا المفكر بسؤال إصلاح الجامعة من خلال مراسلاته مع زملاء له في الميدان أو من خلال خطابه الذي ألقاه سنة 1933 بمناسبة تحمله مسؤولية رئاسة الجامعة. هذا الخطاب وموقفه مفصل في الدراسة التي ساهم بها أستاذي إسماعيل المصدق بمناسبة الندوة التي نظمتها كلية الآداب بنمسيك ونشرها معهد الدراسات مدى، إهداءا لروح الفقيد سالم يافوت.
يفيد هذا الخطاب أن المفكر مارتن هيدجر كان منشغلا طيلة حياته بقضية إصلاح الجامعة معتبرا أن هذه الأخيرة هي السياق الأسمى لحياة الفلسفة. ذلك لأن الجامعة مجتمع لممارسة الحرية الأكاديمية في البحث. وبهذه الممارسة تكون قد ترجمت مبدأ العلم وروحه، وهما الحرية والتفرد في الإبداع.
تفترض الفلسفة على لسان هيدجر، أنه على الجامعة أن تظل فضاءا للبحث والتدريس والتكوين الذاتي. كما يذهب إلى أن تجديد الجامعة، في ظل عصر اكتسحته التقنية، ينبغي أن يتم على أساس روح الفلسفة.
2- بالنسبة لنا نحن هنا والآن، كيف نستأنف ما ذهب إليه هؤلاء العباقرة، لنفكر في الجامعة بوصفها سؤالا فلسفيا؟
لايسعنا إلا أن نكون في موقف مضاد للموقف التقني الذي أفقد الجامعة وحدتها وماهية أدوارها. مثلا، ما دلالة قرار تصنيف مدارس ومعاهد ومراكز عليا بوصفها غير تابعة للجامعة؟ وما معني أن تولي الدولة العناية الكبرى للمؤسسات التعليمية ذات التخصص التقني الصناعي والمهني؟ و ما معنى وضع نظام للترقي يفرض سنوات من الانتظار و تهيئ ملفات يخضع تقييمها لشروط مسطرة تتكلم لغة الحساب الرياضي؟
هذا الوضع كان وراء حصول نوع من الاغتراب لمجموعة من التخصصات عن بعضها البعض، وخلق نوعا من الوهم بهذه التراتبية بالقيمة بين المؤسسات الجامعية.
هذا الموقف من العلم والبحث وغاياته ومن أدوار الجامعة، يؤكد بأن الفكر التقني لا يفكر. وإنه كذلك لأن ماهيته إجرائية قاصرة على مستوى الرؤية والآفاق. إن همها هو “الآن” فقط، غير آبه بمفهوم الزمن والتنوع العلمي والمعرفي.
أبني على ذلك وأقول، أن تكون ضد الموقف التقني في فهمه للعلم وللمعرفة، معناه أن تكون ضد المتواطئ عليه كنوع من التنظيم والتدبير والتكوين. ونتساءل كذلك: هل نظام المجزوءات يتناسب مع طبيعة جميع المعارف والعلوم بدون أدنى مراعات لخصوصية كل تخصص؟ هل هذا النظام مناسب لنوعية السؤال الفلسفي والزمن الذي يقتضيه التأمل الفلسفي؟ نعرف أن زمن الفكر ومكابدة أسئلة الأنطولوجيا ليس هو زمن التقنية. ما معنى أن على الأستاذ في الفلسفة أن ينهي التسآل والتفكير والنقاش بصدد قضية تهم الوجود البشري، في رزنامة محددة سلفا في عدد من الساعات، وأن يسرع في تهييء سؤال الامتحان؟ بهذه الإجراءات أضحى الفكر تابعا لزمن التقنية الذي يتطلب السرعة القصوى في كل شيء. إن حق الفكر في الاستمتاع بزمانه قد تم االتشويش عليه. نعرف أن المفكر لكي يفكر بأصالة عليه أن يكون رحالا، فاتحا آفاق للتفكير مستمعا لهسيس نداء الوجود المتيه للإنسان. ما يجعله قد ينتظر العمر كله لكي تنضج الفاكهة. ينبغي أن نعرف أن زمن الانهمام هو زمن البطء، أما زمن التقنية فهو الاستعجال وتسريع السرعة.لا وقت للسؤال ولا للتأمل، الزمن كله هو لنقل المعلومة والتهيئ للامتحان والكتابة بالصوت الواحد.
لقد أفقد هذا النظام الحياة الجامعية روحها المتمثلة في طقوس “الأغورا” أي السؤال والنقاش والحوار والترافع بصدد أسئلة الإيطوس. هذه الطقوس هي في مجملها قيم إنسانية عليا، يعبر الانسان من خلالها عن ماهية إنسانيته، التي هي الحرية في التفكير فيما يريد أن يكونه.
لقد أصيبت الجامعة بنظام يتكلم لغة أسلوب كوني في الادراك والفهم والتقويم والقياس والانفتاح على الموجود، إنه نظام العالم وقد اكتسحته التقنية.
نسي هذا الأسلوب التقني في الفهم، أن الجامعة فضاء يؤسس لما يبقى متحديا للزمن: إنه السؤال بصدد رسائل عباقرة الفكر والأدب والعلوم والشعر وباقي الفنون. بهذه العدة الرمزية يمسي الإنسان مهيا للاستماع لنداءات الوجود عبر عصور الحقيقة. ذلك أنه بدون هذا الرأسمال الرمزي والسيميائي، يتيه الانسان بدون نظر في العالم. الانسان لا يرى بالعين كما يفهمها طبيب العيون، إنه ينفتح على الموجود بالنظر وما ملك من بنيات ذهنية رمزية، ومن عدة سيميائية ثقافية.
الفلسفة اليوم في الجامعة في موقف حرج ناتج عن هيمنة أسلوب في التفكير آخذ في الاكتساح على المستوى الكوني وهو التفكير التقني، الذي ينسى كذلك أن الفلسفة، على حد قول كانط، هي مشروع كوني عابر للحدود.
ومن أجل أن تنتعش الفلسفة ومعها السؤال في الجامعة بين مختلف المعارف، لا بد من انفتاح الفلسفة على حقول لا فلسفية كالانفتاح على الطب والقانون والشعر والفن والأدب على اعتبار أنها حقول أساسية للسؤال والفكر وحقيقة الوجود البشري.
* ذ. باحث وكاتب في مجال الفلسفة المعاصرة