تغطية خاصة من باريس.. سِحر كريم إبراهيم: رحلة من القصب إلى التجريد

بقلم: زكية لعروسي

في فضاءات الفن العابر للحدود، تجلت عبقرية الفنان كريم إبراهيم، الذي حمل روحه المغربية وهويته الأصيلة ليزين بها سماء المهجر. وفي قلب دار المغرب، تحت إشراف مديرها الأستاذ تاوريرت، وبحضور الأستاذ محمد باديش، المسؤول عن الثقافة، وأبناء دار المغرب، انعقد لقاء فني فريد جمع بين دفء التراث المغربي وأناقة الضيافة التي تُميز هذه الأرض العريقة.

فتحت سقف صالون دار مغربنا الأصيل، حيث الزليج ينطق بروايات الأجداد، وحيث كل زاوية فيه كانت تنطق بالدفء، وكل نقش على الزليج كان يتحدث عن براعة أيدي الحرفيين المغاربة الذين صاغوا هذه الروائع بعناية تُضاهي الإبداع الاسطوري.

زخرفة زليج زادتنا فخرا بهويتنا المغربية، واضفت أجواء احتفالية نابضة بالحياة على هذا اللقاء. إذ لم يكن مجرد مكان للقاء، بل كان الفضاء يروي قصصًا من الماضي والحاضر، جسّد فيه كريم إبراهيم جوهر الفن كتعبير عن الهوية والانتماء.

 

 

كريم إبراهيم، بفنه الذي يجمع بين عبقرية الكلمات وأسرار الخطوط، استطاع أن يحول امسيتنا إلى سيمفونية فنية، حيث لم يكن الحدث مجرد مناسبة عادية، بل كان لوحة حية نُسجت بخيوط الإبداع والروحانية. تحتفي أعماله بتلك العلاقة الحميمة بين التراث المغربي العريق وآفاق الفن المعاصر، ليُبرز من خلالها أن الفن هو جسر بين العوالم، وحوار بين الثقافات، ورسالة تُشع بالجمال والإبداع، وتُحلق بالروح إلى سماوات بعيدة. إنها اللغة التي تتجاوز الكلمات،

كريم إبراهيم كفنانٍ استثنائي يمزج بين ألوان الحياة وبلاغة الخط، ويُحيي الأشكال الهندسية في إبداعات تتجاوز حدود الخيال. كريم، ابن جنوب المغرب وروح مدينة فاس العريقة، استقى من تلك المدينة الروحية شغفه الأول بفن الخط. ففاس، بحضورها العريق حيث تُزَيّن الخطوط العربية جدران المساجد والمعالم التاريخية، غرست فيه بذور الإبداع، ليبدأ رحلته نحو الكمال الفني.

حين وصل إلى فرنسا عام 2001 لمتابعة دراسته العليا، وجد كريم في التقنيات المعاصرة امتدادًا لما تعلمه، وانفتح على عوالم جديدة جعلت من فنه نافذة على الروح، وأكثر عمقًا وتأثيرًا. تلك الرحلة سمحت له ليس فقط بتطوير أدواته الفنية، بل أيضًا بمشاركة شغفه مع العالم. من خلال المعارض وورش العمل التي أقامها في المدارس، المهرجانات، المكتبات، ومعارض الكتب، نجح كريم في جعل الخط رسالة عالمية تصل لكل متذوق للفن.

لم يتوقف كريم عند حدود الخط التقليدي؛ بل استكشف عوالم جديدة، منها تقنية “الخط الضوئي”، التي تمزج بين حركة الضوء وفن التصوير، مضيفًا بُعدًا جديدًا لأعماله، ليجمع بين الزمن والحركة في لغة فنية لا تخطئها العين. هذه التقنية المبتكرة، مع أدائه الحي، تجعل من كل لوحةٍ عرضًا يأسرك بجماله وسحره.

بدأ كريم رحلته مع القلم القصب، تلك الأداة الكلاسيكية التي تتطلب الدقة والبراعة. وعلى مدار سنوات من الممارسة المكثفة، تطور أسلوبه ليصبح مزيجًا بين الكلاسيكية الأنيقة والحداثة الجريئة. انطلق من أسلوب “الديواني”، الذي حمل في خطوطه انسيابية الجمال وتوازن الحركة، إلى رؤى تجريدية تتخطى حدود الزمان والمكان.

ليست أعمال كريم مجرد لوحات تخاطب العين؛ بل هي رسائل تخاطب الروح والعقل. في كل خط، في كل لون، يُبرز كريم قيمًا عالمية عن السلام، والتسامح، والحب، والحرية. يقول كريم:

“كل لوحةٍ وُلدت من اقتباس أثّر في نفسي؛ كلماتٌ عالمية تخاطب الجميع، أو ببساطة كلمات عابرة للحدود.”

يرى كريم الفن ككونٌ متشابك، تتلاقى فيه الحضارات، وتتلاقح فيه الأفكار. كل لوحة هي نافذة تُطلق العنان للخيال، وتدعونا لاستكشاف عوالم جديدة من الجمال. بأسلوبه الساحر وبلاغته العميقة، يخلق كريم لغة بصرية تتجاوز الحدود، لغةً تفتح بابًا لكل مُشاهد ليغوص في عالمه الخاص.

يبقى فنانا كريم إبراهيم شاهدًا حيًا على قوة الفن في بناء جسور بين الثقافات. هو أكثر من مجرد فنان؛ هو شاعر الألوان والخطوط، ورسّام الأحلام، الذي نجح في تحويل الخط إلى لغة صمت تتجاوز الكلمات بإبداعها، وتحاكي القلوب، فتُحدث ثورة في الطريقة التي نرى بها العالم، وترسم الجمال على مساحات لا متناهية.

هذا اللقاء الفني كان مناسبة لتجديد الانتماء الوطني، واستحضار الجمال الذي يميز المغرب، بدءًا من الضيافة التي تفيض أناقة، وصولًا إلى التفاصيل الدقيقة التي تجعل من كل لقاء تجربة استثنائية.