«وكويت لحم حلمي ولساني ومن الكي يشفى الداء»

بقلم: زكية لعروسي

كنت جالسة أمام نافذتي الباريسية، أقرأ مقالاً عن “ضياع حقوق الكاتب والناشر” كَتَبهُ أحد مثقفينا المغاربة، فإذا بي أغرق في شعور يشبه الضياع، كأنني أتيه في ليل بلا نور، يطاردني إحساس مرير باليأس الذي يزداد توهجاً مع كل سطر أقرأه. دارت في “مخيخي” مقارنة خاطفة بين أدب القدامى وأدب المحدثين، لأدرك فجأة أن الحديث عن “أدب التسول” في كتابات نقادنا عن الأولين ليس إلا ظلمًا بيّناً. فالقدامى، على الرغم من كل شيء، كانوا أذكى منا في عصرهم؛ جمعوا بين المتعة والأدب وبين التحصين والربح. فهموا الحياة ودور القلم بأدق التفاصيل أفضل بكثير مما يفعله كتّاب عصرنا. أما اليوم، فإن الكتابات تُرمى، أو تباع مع “المتلاشيات في سوق الخوردة”، ولا يراعى لجهود كتابها، إلا من فهم قواعد اللعبة من كتابنا المعاصرين، أي الذين يستجدون الأضواء و”يتسولون” بأقلامهم وأفكارهم عند أصحاب “البيترودولار” باحثين عن حق مهدور، ونصيب من كعكة المال عند “اصحاب الشكارة ديال الفلوس” وليس عند ” المواطن الكْحْيانْ اللي يفكر في القوت اليومي”

أما أنا، فبقليل من التأمل والروية، ابتعدت عن هذا الربط الساذج بين الحرف وما هو مادي. لطالما كان المشكل المادي مطروحًا أكثر ل”دور النشر”، أما على مستواي المتواضع، فلم أفكر يوماً في أن يكون الحرف وسيلة للعيش. وما “عمر الحرف كان يوكل الخبز”، كما يقال. رغم أن أمي خيرة التي اعتبرها حكيمة بالسليقة والتجربة، لا تشاركني هذا الرأي، تسألني دائماً بحنان يعكس قلقها عليّ: “شحال كتربحي ابنتي من كتاباتك؟”، أو تحرجني بتساؤلات أخرى أكثر صراحة: “علاش ما توظفتيش بحال خوتك الأولاد وانت عندك الدكتوراه؟ واشمن قيمة لقلمك بلا منصب..مشات الدكتوراة ديالك باطل؟”.

أمام هذه الأسئلة، أجد نفسي عاجزة عن الرد، فأدرك أن الخيط الفاصل بين المثالية والواقع لا يرحم. لكنني لا أستطيع أن أخون قلمي. الحرف بالنسبة لي ليس وسيلة للكسب المادي، بل هو صدى عميق لجراح الروح وتجليات الفكر. قد تكون الدكتوراة بلا منصب في نظر أمي” بحال جرة بلا سمن”، لكنها بالنسبة لي طريق مفتوحة لا حدود لها، طريق تقودني نحو فضاء الفكر الحر والكتابة التي لا تخضع لأي قيد.

أدركت، وأنا أقرأ هذا المقال عن “هضم حقوق الكاتب والناشر”، الذي يحكي عن بيع الكتب ب”عشرة دراهم” فقط لجلب اهتمام القراء، أن هذا المقال لا يعبر فقط عن أزمة تسعير الكتب، بل يختزل قضايا أكبر بكثير، قضايا نحاول بكل أسف “نخبيوها تحت الطَّابِّي”، كما يقول المثل الفرنسي، أو كما يعبر المثل المغربي ببلاغته: “نحاولوا ندرقو الشمس بالغربال”.

الكتاب في هذا الزمن يحتضر ببطء، و”كيشومي” من قلة العيون التي يمكنها أن تحتضن حروفه وقلوب تحس بنبضه. أصبحنا نعيش في زمنٍ لا يحترم فيه الحرف، ولا يعترف بقيمة الكتاب إلا كسلعة رخيصة في الأسواق. يُباع الكتاب كما تُباع “المتلاشيات”، فقد تحول من حامل للفكر والثقافة إلى مجرد ورق يلقى في فضاءات التهميش. إن القضية أعمق من مجرد مسألة حقوق مهضومة، إنها أزمة جذرية: كيف نعيد الروح إلى الثقافة في زمن تستحيل فيه الكتابة الإبداعية؟ كيف نعيد للقارئ شغفه في عصر تضيع فيه الكلمة بين عبث التفاهات وثرثرة مثقفي مواقع التواصل؟

توقفت للحظة، وبدأت أتساءل: هل يكفي أن نشير إلى “حقوق الكاتب” أو “الناشر” في “هذا الزمن السعيد”، فيما نرى الكلمة تتحول إلى محض زخرفات خاوية، تُكدس في خصور من يدعون الثقافة على شاشات الهواتف؟ هنا يأتي السؤال عن دور وزارة الثقافة، تلك التي كنت أظنها غائبة فقط عن المشهد الثقافي بالمهجر، لكن المقال الذي قرأته كان بمثابة نافذة فتحت أمامي واقعا بئيسا حتى على أرض مغربنا الحبيب، و” حلي عويناتي”.

الكتب يجب أن تكون حاضرة في كل مكان، حتى وإن غابت الثقافة المكتوبة عن الساحة. لكننا الآن في زمن انقرضت فيه حتى الصحف المطبوعة، وعميت العقول البصيرة، وتراكم الغبار فوق رفوف المكتبات المهجورة. في زمن الإنترنت، حيث أُتيحت للمواطن العادي فرص لا مثيل لها في الاطلاع. فترانا نجد “المثقف” و”نصف المثقف” قد كُوي خياله وورقه بلهيب حرقة غياب القارئ، وكما يقولون، “كيبرد على راسو ودارها على ظهر التطور والعولمة”، وكأن به يانس وحدته ويرقع جراحه ويعزي نفسه بقوله: ” البركة في القليل، وفي جودة الحضور، والقراء”.

غاب القارئ وضاعت معه الفاصلة، وطار الحافز، وغاب معه مستقبل الكتابة. كيف يمكن إذن أن يستغرب مثقفونا الذين “لا حول لهم ولا قوة” من ظاهرة “أسامة” في معرض الكتاب لهذه السنة؟! نحن في زمن القارئ “حط راسو في النخالة”، وزمن أصبحت فيه “ديبلومات الوهم” تُرمى على قارعة الطريق، وصار الجميع باحثا، وأديبا، وعالما، بينما لا أحد يُعنى بهذه الفوضى، وكما قالت أمي “اختلطت العرارم”.

ثم تأتي مشكلتنا مع اتحاد كتاب المغرب لتزيد الطين بلة..اتحاد “نايم على الجنب اللي مريحو”. لم أعد أعلم حتى من هم أعضاؤه، لأنه غطس وغرق في المحاكم والقضايا، مبتعدا عن كل ما يتعلق بالطموح الثقافي لبلدنا. كيف يمكن له أن يكون قدوة للقراء وهو نفسه مغمس في نزاعات الهيمنة والسيطرة؟ لقد بات بعض أدبائنا أشبه بـ”ميسرة التراس” أو “حفص الكيال”، لا يحضرون إلا من أجل الولائم. فكيف نستطيع ان نؤسس مناعة نقدية بناءة، في حين أن كرسي الكتابة يهتز تحت أقدام “رواد الأدب”؟ ليس غريبا إذن إن هرب الكثير من مثقفينا إلى فضاءات “الفيسبوك” و”تيك توك”، بعدما تحولت الثقافة إلى وسيلة للوصولية والموت الروحي.

و”كل كوم وغياب المسؤولين كوم تاني”، كما يقول إخوتنا المصريون. أين هم المسؤولون عن الثقافة؟ كيف لهم أن يغضوا الطرف عن هذا الاعوجاج في الكرسي؟ إن لم يتدخلوا لتصحيح هذا الانحراف، سنغلق على أنفسنا في كهوف الظلام، ونحبس الكتابة في ضباب النسيان. وأي عجب أن نرى مبنى اتحاد كتاب المغرب يتهاوى والبعض من مسؤوليه متمسكون بكرسي تكسر و”غمل، ورْشَا اللوح دْيالُو”؟ لم أرى معاناة كتلك التي يعيشها هذا الكرسي، عار أن يتحول القلم إلى “محلبة” أو إرث يُتوارث كحق مكتسب.

هذا المقال هيج ألام جرح غائر، بإهمال مرير، و”الحكرة”، وغياب الدعم المادي والمعنوي الذي يعيشه المثقفون المغاربة في المهجر، فقد كتبت مرارًا وصرخت في وادٍ من هم يهيمون ويحلمون، مطالبة بفتح مركز ثقافي في باريس، حيث يمكن للمواهب الأدبية والفنية أن تزهر وتزدهر. لكن، وكما يقال “لا حياة لمن تنادي”، اصدقكم القول أنني فكرت في كي لساني وحلمي، لربما اشفى من داء الغياب. المثقفون، يا سادة، هم الواجهة الدبلوماسية الثانية لبلدنا، ولكن من يسمع؟

وانت تطالب ايها المثقف ب”حقوق الكاتب والناشر”، أنا أطالب بأجنحة تأوينا من تحت سماء ثقافة مغرب كان، وما زال يُنظر إليه كمنارة للعلم والنور، والادب. نحن لا نجد مكانًا للتعبير، وكأننا نطلب الصدقة، ونسترزق عند مراكز لدول اخرى. فلا صهوة لقصيدة الشاعر، ولا سجاد بالاحمر والاخضر ليسحرنا ويحلق بنا على جناحي رواية الحلم. لا اريد أن يسجل التاريخ يوما تهميش، المثقف المهاجر، والحكم عليه بالوحدة والعزلة. بل ان تبث الروح في حبره وانفاسه، ليحيا مغربنا بالمهجر عبر رواده بالمهجر وليس فقط ممن هم على ارض الوطن.

انا تعيسة ومتعبة لاني احس ان كلماتي، ونداءاتي المتتالية تُهمس في الفراغ. تنتظر آذاناً صاغية، لكن أين هي تلك الآذان؟

إننا بحاجة إلى خيمة مطرزة بألوان جبال المغرب وحرارة رمال صحرائه، لنجد تحتها ملاذًا يحمي هويتنا. فنحن ننادي بالثقافة من أجل الثقافة، نبحث عن مركز للأدب والثقافة يحتضن المهاجر ويربطه ويهديه إلى وطنه، وان يكون من أنفاس المهجر، فالمثقف المهاجر قوة فكرية قادرة على إحداث دينامية ثقافية تعادل ما يصنعه أبناء وطنه في الداخل. فالمهجر ليس سوى خزانٍ زاخرٍ بالطاقات العلمية، والادبية، التي لا تفقد روحها الوطنية ولا شعورها العميق بالمسؤولية تجاه الوطن الام.

الحاجة أمَسُّ- من اي وقت قد مضى- إلى مكان يُشعرنا بأن هويتنا الأدبية والفنية المغربية لا تزال حية، تسري في عروقنا، مكان يجمعنا تحت مظلة واحدة، نستظل بظلها من قسوة الاغتراب ونستعيد من خلالها صوتنا الثقافي المغربي الذي يضيع في زحام اقلام بلدنا، واتحاد لا وجود لظله علينا.

فلا نحاول التستر على هذا الواقع، الثقافة ليست بخير بالمهجر، الحقيقة أن المثقف المغربي يعاني من الغربة والاغتراب بين ابناء جلدته، وكلمته تضيع وسط زحمة المنافسة والمصالح الشخصية لكتابنا. فلا تجعلوا المثقف والمواطن المغربي في الهجرة غريباً عن وطنه الام ، و متسولاً في وقت كان يجب أن يكون فيه رائداً، بدلاً من أن يكون ظلا باهتا من الفتات الذي تبقى.