بقلم: زكية لعروسي
أثناء تصفحي لكتاب البخلاء للجاحظ، استوقفني نص يحمل في طياته مزيجًا من الفكاهة والعمق، جاء فيه:
“فقال شيخ منهم: ماء بئرنا، كما قد علمتم، مالح أجاج، لا يقربه الحمار ولا تسيغه الإبل وتموت عليه النخل، والنهر منا بعيد وفي تكلف العذب علينا مؤونة. فكنا نمزج منه للحمار، فاعتل منه وانتقض علينا من أجله، فصرنا بعد ذلك نسقيه العذب صرفًا. وكنت أنا والنعجة كثيرًا ما نغتسل بالعذب مخافة أن يعتري جلودنا منه مثل ما اعترى جوف الحمار، فكان ذلك الماء العذب الصافي يذهب باطلًا. ثم انفتح لي فيه بابٌ من الإصلاح، فعمدت إلى ذلك المتوضأ، فجعلت في ناحية منه حفرةً، وصهرجتها وملستها، حتى كأنها صخرةٌ منقورة، وصوّبت إليها المسيل. فنحن الآن إذا اغتسلنا صار الماء إليها صافيًا لم يخالطه شيء. ولولا التعبد لكان جلد المتغوط أحق بالنتن من جلد الجنب، فمقادير طيب الجلود واحدة، والماء على حاله. والحمار أيضًا لا تقزز له من ماء الجنابة، وليس علينا حرج في سقيه منه. وما علمنا أن كتابًا حرّمه ولا سنّة نهت عنه. فربحنا هذه منذ أيام وأسقطنا مؤونة عن النفس والمال.”
هذا النص نُقل على لسان شيخ من شيوخ أهل البصرة، ممن اعتادوا على التحايل الذكي في الاقتصاد والتوفير. يظهر لنا هنا رجل يسعى إلى إيجاد حلول لتقليل كلفة الماء العذب الذي يضطر إلى جلبه من بعيد بسبب ملوحة ماء بئره، فيتضح من هذا السرد الفكاهي روح البخل الذي يتجاوز الحدود إلى حد التدبير “المفرط” من أجل توفير الموارد.
يقدم لنا الجاحظ في هذا المقطع شخصية تحاول بطرق طريفة إيجاد حلول لمشكلة ندرة المياه الصالحة للشرب، وذلك من خلال إعادة استخدام ماء الجنابة لسقي الحمار. هذا السلوك يعكس طريقة تفكير عملية وإن كانت مبالغًا فيها، إلا أنها تلامس واقعًا نعيشه اليوم: أزمة شح المياه وقلته.
فَبيْنَ الجد والهزل، عرض الجاحظ تجربة شخصية تواجه معضلة الماء المالح، فبدلًا من الاستسلام للتكاليف الزائدة لجلب الماء العذب، اخترع الرجل وسيلة للاستفادة القصوى من الماء المستعمل، مستخدمًا ما قد يراه الآخرون مرفوضًا — ماء الاغتسال — لأغراض أخرى مثل سقي الحيوان والانبات والأشجار.
فالنص يبرز سلوكًا إيكولوجيًا قبل أوانه، حيث يتم إعادة تدوير الماء بطريقة تخدم حاجته دون التبذير. بقدر ما يثير النص الابتسامة في تناول الجاحظ لحالة البخل، فإنه يقدم لنا نظرة نافذة إلى أزمة تتفاقم في عصرنا: أزمة ندرة المياه النظيفة والالتجاء إلى تحلية ماء البحر. فنحن اليوم نواجه أزمة عالمية تتعلق بشح المياه أشد خطورة من أي وقت مضى. يتزايد الطلب على المياه العذبة مع ارتفاع تعداد السكان، بينما تتناقص الموارد المائية الصالحة للاستخدام. يظهر هذا النص، بطريقة فكاهية، أهمية الحفاظ على المياه والبحث عن وسائل ذكية لاستخدامها بكفاءة. فكما لجأ هذا الرجل إلى حلول بديلة للحفاظ على موارده، يتعين علينا اليوم أن نكون أكثر وعيًا في استخدامنا للماء، سواء في منازلنا أو في الأنشطة الزراعية والصناعية.، وفي الحمامات.
ما يطرحه الجاحظ في هذا النص يمكن أن يكون درسًا لنا في زمن الأزمة المائية. فلا يمكن التعامل مع الماء كأنه مورد لا ينضب. يجب على المجتمعات ومجتمعنا المغربي الوعي بأهمية تبني سلوكيات مسؤولة فيما يخص استهلاك الماء، لأن التبذير فيه يضر بالجميع ويهدد مستقبل الأجيال القادمة.
فرغم سخرية الجاحظ من الإفراط في التوفير، إلا أن النص يمكن اعتباره نقطة انطلاق للتفكير في إدارة الموارد المائية بشكل مستدام. كل منا يمكنه أن يساهم في حل هذه الأزمة، سواء عبر تقليل الهدر اليومي للماء، أو اعتماد أساليب أكثر كفاءة في الري، أو دعم مشاريع تحلية المياه وإعادة تدويرها- وهذا ما يقوم به المغرب تحت إرشادات صاحب الجلالة محمد السادس نصره الله-. أزمة الماء ليست مجرد مشكلة محلية، بل هي تحدٍ عالمي يتطلب تكاتف الحكومات والشعوب لإيجاد حلول مستدامة. قد يبدأ الحل من ممارسات بسيطة في حياتنا اليومية، ولكنه يمتد ليشمل سياسات دولية وتعاونات واسعة. وكما استنبط الجاحظ في نصه حلولًا عبقرية، وإن بدت فكاهية، فإن أمامنا اليوم فرصة للابتكار والإبداع في مواجهة هذه الأزمة قبل أن تصبح أكثر حدة.