بقلم: زكية لعروسي
لطالما بحثت عن مصطلح يصف بدقة من يمسك القلم ويكتب، في ظل الانتشار الواسع لمن يطلق عليهم لقب “أديب” دون استحقاق. لقد أصبح كل من هبّ ودبّ يكتب، وكأن الكتابة أمرٌ متاحٌ للجميع دون قيود أو معايير ” دخل امبارك بحمارك” كما يقول مثلنا المغربي. فالكتابة فنٌ رفيع، تتطلب ثقافة واسعة، وأخلاقًا نبيلة، وفهمًا عميقًا. إنها ليست ساحة مفتوحة لكل من خطر له أن يكتب، وليست “سوقًا” لكل من “ضربت او نفخت في جمجمته الريح، فتخيلها خيال”. إنني هنا أتحدث بالتحديد عمن يصفون أنفسهم بشعراء كبار أو كتّاب متميزين.
في الحقيقة، هناك الكتّاب الحقيقيون، وهناك أنصاف الكتّاب، وهناك من يكتب ” باش يلهي راسو فقط”. الأديب الحقيقي يجب أن يكون قارئًا نهمًا أولاً، قبل أن يكون كاتبًا، وألا يكتفي بتركيب الجمل كما تعلّمنا في المراحل الابتدائية. قلة فقط من أولئك الذين أقرأ لهم يستحقون لقب الكاتب المثقف، إذ إن الثقافة هي التي تمنح الكاتب قوة قلمه وتجعل منه كاتبًا حقيقيًا، والشاعر شاعرًا بحق، والناقد ناقدًا متمكنًا. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن كل واحد من هؤلاء المثقفين هو أديب بمعنى الكلمة.
إذا عدنا إلى أصول كلمة “أديب”، نجد في معجم “العين” للخليل بن أحمد الفراهيدي (170هـ) تعريفًا مهمًا: “رجل أديب مؤدب يؤدب غيره ويتأدب بغيره. والآدب: صاحب المأدبة، وقد أدب القوم أدبًا، وأدبت أنا. والمأدبة: المرأة التي صنع لها الصنيع. والمأدبة والمأدبة، لغتان: دعوة على الطعام.”
ولكن، منذ أواخر العصر الأموي وبداية العصر العباسي، بدأت تتشكل أسس فن الكتابة التي أثرت في الأدب من حيث المضمون والشكل. فأصبحت كلمة “أدب” تشمل، إلى جانب الجانب الأخلاقي، فنون المنظوم والمنثور، ومسائل اللغة والنحو، والبلاغة، وأيام العرب، وعلم الأنساب، والأخبار العامة. وقد مثّل كتاب الجاحظ “البيان والتبيين” أحد أعمدة الأدب العربي وأصوله، إذ جسد سحر البيان العربي عند فرسان القلم واللسان.
وعلى صعيد الرسائل، كان الجاحظ مثالاً للتبحر في تراث الشعوب وثقافاتها، ومعتقداتها، وفلسفاتها. ومن هنا، نستنتج أن ما كان يجعل صاحب القلم أديبًا في الزمن القديم هو تعدد اختصاصاته، ومعالجته لقضايا عصره في الدين، والسياسة، والعلوم، والفلسفة، والتعليم. بهذا الشكل، كان يرتقي بمفهوم الأدب، ويغرس بذور الوعي الفردي والجماعي في المجتمع.
للأسف، هذا الوعي غائب اليوم عن أقلام كثيرة. نجد كتّابًا غير مثقفين، وبأقلام غير مثقِّفَة، كل همهم إغراق أقلامهم في رفاهية الحياة، متجاهلين مسؤولية التنوير وتثقيف المجتمع. وبذلك، يتساوى الجاهلون منهم مع العالمين، وتضيع الحاسة الأدبية والإحساس بالمسؤولية. إذ ان كل همهم إغماس اقلامهم في مرق دسم من مأدبات الطعام وقدوره، حتى انهرق ما تبقى من حبرهم في هذا المرق، وفي كؤوس شرابهم، ليستووا مع ” الشعب الطماع”. وبهذا أصبحنا بحضرة آدِبِين يتبعون “ازرود والهرود” وليس بحضرة ادباء مسؤولين عن توجيه المجتمع ونشر الوعي فيه