المُختارُ من الحياة والموت

بقلم: عبد الدين حمروش

غالبا ما أحاول النأي بنفسي عن كتابة رسائل النعي والتعازي. الحزن يكابده المرء بدواخله. ربما قد لا تكون حاجة إلى التعبير عنه كتابة. توفي أخي، وتوفيت والدتي بعده مباشرة. لم أشأ كتابة “شيء” على حائطي إلا بعد أن تقاطرت عليَّ مُكالمات التعزية من قِبَل الأحباب والأصدقاء.

أسعى إلى أن أتصالح مع الموت: موت الأقارب قبل الأباعد. أفكر في الموت يوميا، وأنتظره عند كل زاوية، أو منعطف. اعتبره جزءا من الحياة.. وجهها الآخر الذي ينبغي أن نعيشه عبر الفقدان، ونطبع معه بأشكال متعددة من الغياب.

الموت خبر يومي فاجع، لكن عادي بمعنى ما. نعيشه مثلما نعيش أية تجربة في الحياة. رحلوا، ويرحلون، وسنرحل. هكذا، نقول لنخفف عبء الفقدان. ومع ذلك، فالموت يتحول إلى أبدية حياة، بالنسبة إلى من ظلوا يملؤون يوميات الحياة بوجودهم الرمزي المختلف. الموت فينا ومعنا وحوالينا. أمامنا وخلفنا. كم من شخص حي هو بمثابة ميت، بفعل أثر الغياب المستحكم فيه، إلى أن نراه عابرا أمام أعيننا، أو نلتقيه، وجها لوجه، حول مائدتنا. الحياة صارت أقسى، حين باتت تجعل الغياب سيّد أخبارها اليوميّة. الغياب موت. غير أنه موت مؤجل بالمعنى الطبيعي، إلى أن يهلّ علينا طائر النّعي.

في كل مرة يترجل عزيز، تحس كأن طرفا من أطرافك قد سقط. تخشى الفراغ الموحش. تخشى أن تبقى وحيدا، من دون أطراف تقيم أَوَدَك. الأصدقاء هم بمثابة معان مضيئة. تلك التي ينهض بها وجودك على قدميْن. حين يحصل الموت تكتمل دورة معنى. غير أنك لا تريد لدورته أن تكتمل، وتبلغ منتهى ذروتها. في اكتمال معنى ما، ثمة تحدث نهاية ما لتأويل ما. مُصِرّا على الحياة، تقاوم فكرة انتهاء طريق، عند نقطة معينة.

الوسيلة الوحيدة لمقاضاة الموت، أو بالأحرى القضاء على ما يُلزمنا به من غياب، هي المبادرة إلى الحياة عبر الذاكرة. بقدر استعادة الموتى، عبر الذاكرة، ممن كنا بينهم، وكانوا بيننا، تكون نشأة حيوات أخرى لهم (ولنا أيضا). حيث يعود المعنى إلى نشأته الأولى، ينشأ التأويل المتجدد. تستأنف الحياة دورتها. التوقيع على صك الوجود المادي، عبر الإصرار على استمرار السلالة، ضمانة لديمومة الحياة بالنسبة إلى البعض. قالوا، بثقة، في هذا: ما مات من خَلَّف (أي خَلَّف دُرِّيّة). غير أن الحياة، التي من طينة رمزية، هي الأقدر على تحقيق الخلود. الصراع حول الرمزيات ظلّ الأشرس: في الحياة كما في الممات.

بمجرد نظم قصيدة، أو تأليف رواية، أو قيادة ثورة، أو تداول قولة مأثورة، أو حفر موسيقى على أسطوانة، لا يبعدُ أن يندمغ اسم صاحبها بها، على سبيل تحقيق الخلود الرمزي. ما بقي ثمة بندول ديمومة يَدُقّ. من شأن واحدة مما قد أُتِيَ على ذكر، على صعيد التمثيل فقط، أن تُكتَب لصاحبها الحياة. الأثر بالرمز أبقى من الأثر بالولد. والمثير أن من آمنوا بديمومة الأثر بالرمز، على حساب الأثر بالولد، عاشوا عُزّابا في حياتهم.

إنها صيغة لهزيمة الموت. هل يَخرَّ الموت صريعا، وبالضربة القاضية، أمامها؟ قلنا إنها صيغة.. مجرد صيغة، إن لم تكن للتغلب على فكرة الموت، فعلى الأقل للتحايل عليها. ما معنى أن تموت، ولم تكن قد عشت الموت عيانا؟ دعك ممن ماتوا، ثم عادوا إلى الحياة مرة ثانية.

مات المختار، ولكن لم تمت الحياة، التي ظلت تشع من حواليه. المعنى ثَرّ. ودورة جديدة منه، في ضوء الحياة التي بالكاد قد بدأت قبل ساعات، مُبشِّرة بكثير من العطاء، من المعنى.

المختار لم يمت. هي دورة انتهت، وبدأت أخرى. المعنى لا يموت بوجود الولد بالرمز: في الكتابة الحيية المستنيرة، والرفاقية النضالية الحالمة، والإنسانية العالية الرفيعة.

لذلك، لا أجد نفي في موقف من يَشعر:

وما كان قيسٌ موتُه موتُ واحد// ولكنّه بنيانُ قوم تهدَّما.

البنيان بالكاد بدأ ينتصب. يشعُّ، ويشمخ. إنها حياة ثانية شرعت، بعد أن اكتملت حياة أولى. الحديث عن الانهدام، في هذا السياق، بغير معنى.. حيث بتنا نميل إلى البحث عن معنى: للموت كما للحياة. مات المختار. عاش المختار. إلى اللقاء قريبا.