صدر للكاتب والصحفي والمحلل السياسي عبد الحميد جماهري مقال في موقع “العربي الجديد” بعنوان “ما سيغيّره موقف فرنسا الجديد في الصحراء وشمال أفريقيا”. و نظرا لأهمية المقال، نعيد نشره بالكامل.
بقلم: عبد الحميد جماهري
يرى الخبير الفرنسي في الجيوسياسة، مؤسّس ورئيس معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية، باسكال بونيفاس، أنّ كلمة واحدة وردت في رسالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى العاهل المغربي محمّد السادس بخصوص قضية الصحراء، كانت كافية لصناعة تاريخٍ جديد للعلاقة بين البلدين. هذه الكلمة (“الوحيد”) وردت في عبارة ساكن قصر الإليزيه، يقول فيها: “بالنسبة لفرنسا، تُشكّل خطّة الحكم الذاتي الأساس الوحيد للتوصّل إلى حلّ سياسي عادل ودائم، ومتفاوض عليه”.
اكتسبت الكلمة فرادتها التاريخية من أنّها “جديد” فرنسا في قضية الصحراء، المصيرية بالنسبة للمغرب، باعتبار أنّها كانت خطوة حاسمة بالغة الأهمّية والدلالة في تحوّل الموقف من دعم للحكم الذاتي، كما عبّرت عنه فرنسا منذ 2007، تاريخ تقديم المُقترَح المغربي، باعتباره من بين صيغ أخرى للحلّ، إلى اعتباره الأساس الوحيد للحلّ. ما تعلّق بباقي كلمات العبارة أعلاه، نجده في قرارات الأمم المتّحدة (مجلس الأمن تحديداً) كلّها، الخاصّة بالملف منذ 2008 في الأقلّ. وسبق لرئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، أن دخل التاريخ، وقلب المعادلة في منطقة شمال أفريقيا وحوض المتوسّط بالكامل. هو أيضاً غيّر تاريخ علاقة إسبانيا بالقضية الترابية للمغرب، ومنها تاريخ العلاقات الجيوستراتيجية في المنطقة، التي ما زالت تفاعلاتها مستمرّة.
اعتبار المقترح المغربي الأساس الوحيد للحلّ يعني أنّ السيادة المغربية هي الأفق الوحيد له، وأنّ المساعي للعودة إلى فكرة أخرى، منها الاستفتاء المفتوح على إمكانية إنشاء دولة سادسة في المنطقة، لم تعد ذات معنى. لكنّ كلمة الوحيد ليست هي المشترك الوحيد بين إسبانيا وفرنسا، اللتين توزّعتا المغرب في أثناء تقاسم العمل الاستعماري في بداية القرن الماضي. ولعلّ المغرب كان بذلك البلدَ الوحيدَ (على الأقلّ عربياً وأفريقيا)، الذي اقتسمت باريس ومدريد تُرابه: الشمال، والجنوب وضمنه أقاليم الصحراء، لإسبانيا، في حين استولت فرنسا على باقي التُراب المغربي، وهو الأمر الذي سينعكس في وضعية تحرير البلاد، ويُعقّد كثيراً معادلاتها.
لعلّ أكبر تحوّل وأدق إنجاز، من جهة التاريخ، ما حققه محمّد السادس للمغرب في قضية الصحراء، وهو مساعدة العواصم الاستعمارية السابقة على إنضاج علاقة جديدة، بل يمكن القول إنّه حرّرها من شرطية استعمارية ظلّت تتحكّم ضمناً أو صراحة في التعامل مع القضية، وهي عملية إنضاج جاءت أحياناً كثيرة على نار غير هادئة، باعتبار أنّ التحوّل الإيجابي كان نتيجة دبلوماسية هجومية، وصلت حدّ الأزمة الفاصلة مع الدولتين (إسبانيا وفرنسا) معاً، وبناءً على ندّية غير مسبوقة، قراءة جيّدة للتحوّلات الجيوستراتيجية، وتعاملاً عقلانياً مع هامش المناورة الذي فتحه النظام الدولي الجديد لنظام مُتعدّد الأقطاب… إلخ.
كان لكلمة واحدة قوّة تغيير الدبلوماسية الفرنسية وأهلها، ستغير معادلاتٍ كثيرة، ليس لأنّ الرئيس ماكرون أراد أن يجعل الالتزام الجديد للجمهورية “التزاماً وطنياً ودولياً”، فقط، بل لأنّ تلك الكلمة ستفتح كثيراً من صناديق التاريخ، وتعيد حقائق كثيرة إلى الواجهة. لقد قالت رسالة ماكرون إنّ حاضر الصحراء ومستقبلها يندرجان في إطار “السيادة المغربية”، في الوقت الذي يحضر الماضي خلفية حقيقية في قضية مثل هذه. ولعلّ في جواب العاهل المغربي على رسالة ماكرون، إشاراتٍ ذات دلالة بالغة في إحالة على هذه النقطة، فأولاً، شدّدت الرسالة على الاعتراف للمغرب بأسانيده القانونية و”حقوقه التاريخية” في الموقف الفرنسي الجديد. وثانياً، صدر القرار عن بلد مُطّلعٍ وثيق الصلة بماضي شمال أفريقيا وحاضرها، وشاهدٍ من كثب على تطوّر هذا النزاع.
ليست هذه الإحالات التاريخية درساً في الجغرافيا أو استرجاعاً للحوليات التاريخية من باب تأثيث دبلوماسية الحاضر فقط، بل هي جزء من عمق المشكلة، وتُلقي على الإليزيه قولاً ثقيلاً، ففرنسا صانعة خرائط شمال أفريقيا، ولعلّ المقصّ الديغولي فصّل دولاً في مقاس وحدود أماكن أخرى، وأنشأ أنظمة في مقاس الحكم الكولونيالي، وما إلى ذلك. وللاستعمار ذاكرة لا شكّ، بوثائقها ومستنداتها، ربّما لم تنتهِ صلاحيتها الدولية قانونياً، كما يمكن أن تسجّل انقلاباً في محافل النقاش الدولي. واعتراف فرنسا من هذه الناحية أقوى من اعترافات دول أخرى بقوّة التاريخ وحقائقه، وللقرب الفيزيقي من التراب المغربي أو في شمال أفريقيا، وهي على دراية عميقة بالحدود بين الدول. والمغرب لا يُسلّم بإجبارية الحدود الموروثة عن الاستعمار، ودستوره يتحدّث في الفصل 42 عن حوزة المملكة في دائرة حدودها الحقّة.
كما أنّ فرنسا تعرف جيداً، بفعل العلاقة مع كلّ من تونس والجزائر والمغرب، خبايا ومنعطفات حاضر شمال أفريقيا، ورهانات الأنظمة فيها، وقدرتها في الساحة القارّية والدولية. ولطالما دعت القوى الحيّة في المغرب، التي ورد ذكرها في رسالة محمّد السادس، الدولة الفرنسية إلى فتح أرشيفها المُتعلّق بشمال أفريقيا عموماً، وبالصحراء خصوصاً، وهي القوى الحيّة نفسها التي تربط بين الحلم الأطلسي للجزائر الفرنسية، أي تأمين ممرّ نحو الضفة الأطلسية، وافتعال نزاع الصحراء في وقت سابق في صراع غابر.
لقد ربح المغرب عضواً في مجلس الأمن، هو ثاني دولة كبيرة من بين الخمس الدائمة في الجهاز التنفيذي الأممي، تعترف صراحة بالسيادة المغربية، وهذا ربح سيغيّر كثيراً من معايير تقدير الموقف حول الصحراء في المنطقة. ستصبح فرنسا إلى جانب الولايات المتّحدة الشريك الدولي الثاني في تدبير الحكم الذاتي، مدعومتين في ذلك بمواقف 84% من الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة، لكنّ الذي ستضيفه فرنسا لا تستطيع أي دولة غير إسبانيا تقديمه، في توضيح حقيقة الوضع، والخروج من ذلك الالتباس التكتيكي، الذي تحكّم في مواقفها بين الرباط والجزائر. فرنسا هي أيضاً شاهدة على نفسها كما فعلت إسبانيا، وسيكون عليها أن تغادر تاريخَ القرن العشرين الذي عبرته دولة استعمارية، إلى دولة القرن الواحد والعشرين، التي حرّرتها مستعمراتها السابقة من تردّدها، ورماديتها… وللموضوع بقيّة.