بقلم: المصطفى غزلاني*
” والذين جاؤوا قبل هذا المساء كانوا مثلي يملأون قربهم بالماء” يقول الشاعر الكردي.
كل هذه الوجوه كانت هنا ذات حين قبل مجيء بوشعيب إلى المحترف. ربما كانت، من قبل، في شعاب آزمور. وجها، وجها.. آدميا، آدميا.. كينونة، كينونة.. كلهم تناسلوا لا لشيء إلا لتشييد الإمبراطورية البصرية الهبولية: بوشعيب لا يرسم. بوشعيب يمنح بطائق الإقامة الأبدية لساكنة ظلت محْتمٌلة في ما قبل اللون والحبر. يتقن التعرف على تلك الوجوه، تلك المختارة؛ بوشعيب عايشها من الحد إلى الحد..
في حضْرات فردية بعنوان ” وجوه” برواق المعهد الفرنسي الدار البيضاء أو بأفضية أخرى، تعود الزوار على مباغثة الضيوف الهبولية في آخر إنتاجاته الفنية، كما لو أنهم كانوا في حضرة شهود قدِموا من هناك حيث مر بوشعيب؛ حيث عاش طفلا، حيث عاش شابا، حيث لم يعش بالمرة.. شهود يحملون السر النووي: ما استلمه بوشعيب من قبلُ وما أمّنهم عليه من بعدُ.. هم شهود تلك النار التي لحست باطن المعبر.. لم يأتوا من السماء، لم يأتوا من الأرض، لم يأتوا مما بينهما.. أتوا من عالم رابع يروون حكاية الدم الذي تخلى عن حمرته لفائدة الرماد: المادة الأصدق لكتابة الغياب أو هو مركز مادة الحياة. منهم من يحكي عن الحب، منهم من يحكي عن الخيانة، منهم من يحكي عن الفقد، منهم من يحكي عن التيه… لكن محتمل هذه الوجوه الأول هو السكات.
بعدها كان لزاما على بوشعيب العبور لينجلي الأثر كاملا.. غير أن عبور المبدع لا يقاس بمعادلة الماضي والحاضر والمستقبل، لأنه لا يعترف إلا بحركة الوقت، ومن هنا يكون زمنه زمنا قابلا للتوظيف، للتصريف، كأن يُرفق في حقيبة سفر، كأن يُستدعى ضيفا إلى قهوة الصبا.
تشير الساعة إلى الثالثة بعد زوال أحد أيام معرضي بقاعة محمد الفاسي، بينما كنت أتابع مرويات إسماعيل في يقظة خشية منعرجاته السردية، دخل رجل الرواقَ. اطلعت إلى ملامح الوافد. من صرامة الخطو أدركت أنه قادم لزيارة المعرض عزما مسبقا لا حدثا عرضيا. بادرته بالتحية فرد بلياقة صادقة وتوا باشر الكلام.. كلام يتداوله ويفهمونه الفنانون التشكيليون عادة، وآخر ينتمي إلى القطاع اللغوي الخاص لكل فنان. تتخلل كلامه تلويحة يد أو عبارة من تقاسيم وجهه. وبفراسة مكعبة أدركت أن الرجل لا يمكن أن يكون غير الهبولي.. وحين الكلام خاطبته باسمه؛ سي بوشعيب، كأني أعرفه أزلا، ورد كأنه يعرفني أو يعرف أني أعرفه.. لا، لم نكن في حاجة لمعرفة أسماء بعضنا.
يقول أحد حفاري جداول المعنى الإستطيقي: “إن الذي ننظر إليه هو من ينظر إلينا”.
لا بد سنعيش عمق هذه المقولة إذا ما وقفنا وجها مع “وجوه” الهبولي. يلتبس الحال حين نعلم أن الهبولي هو اسم درب بمدينة آزمور. كلاُّ، قد يبلغ المعنى من الغنى ما يحتمل التوازي والتقاطع في الآن ذاته. تُعلمنا المواجهة لياقة الصمت والإنصات: “لكي نجيد فهم الصمت سنكون في حاجة لمشاهدة أشياء وهي تصمت” كما يقول السيد باشلار. وجوه الهبولي تتقن الصمت وتبلغه للعابر..
أتوقف عند هذا الوجه، إنه بدون تسمية. لا يهم. طُمست المعالم. لا يهم. لا شيء يؤشر على شيء. لا يهم. كأن ما يريده بوشعيب هو هذا “ألاّ يهم”. لا يهم المكان، لا يهم الوقت، لا يهم الحدث… بقايا الوجوه وحدها ما يهم. يدعها الهبولي تنفلت بغاية تنضيد ما يشبه الحياة: ” تبدأ أشياء الحياة بالولادة بينما أشياء الفن تبدأ إثر دمار ما.” كما يقول هوبرمان. والدمار إما تحققَ أو آخذ في التحقق أو محتمل التحقق، ويظل المبدع وحده هو الشاهد والشهادة، الدال وحامله.
بوشعيب يذيب المادة اللونية ليحفظ منها أثرا على ورق وقط.. الكل قابل للزوال.. وجوه عابرة في طريق، في زقاق، في مدينة، في وقت، في حلم … على ورق.
هم الآن يحاورون زوار الرواق في حميمية مغرقة لا يدركها إلا هم؛ اولائك القاصدون السيد الردّاد أو السيد وعدود أو السيدة القديسة، الطامحون إلى الرؤية الخلاص.. أولائك الغاربون عن آزمور من سلالة مصطفى إستيفانيكو بخرائط أو بدونها وتوالدوا أشباها في قبائل مستحيلة…
لربما يكون عالمنا ككل هو رماد العديد من الكائنات الحية، على حد قول نيتشه.
* فنان تشكيلي ـ كاتب