محمد بن ابراهيم المرّاكشي ـ شاعر المغرب

بقلم: عبد الدين حمروش

 

–    الأدب المغربي و”البضاعة المردودة

اعتمدت الدراسات الأدبية، في تعرضُّها للأدب المغربي- الأندلسي، على أسلوب المقارنة: مقارنة ما أبدعه المغاربة مع نظرائهم المشارقة. وتبعا لذلك، صار الحديث عن “مُتنبّي” المغرب أو “نُواسه” من الأمور المعتادة، منذئذ، في مثل هذه الدراسات. للإحاطة بالجديد الطارئ، دون الخوض في مغامرة البحث، مع ما قد يستتبع ذلك من أحكام تقديرية، يكفي إحالة هذا “الجديد” إلى إطاره “القديم”. وإن كانت هناك عناصر ذات خصوصية فارقة، فعلا، فليس يحتاج الأمر إلا إلى التنبيه إليها، دون أن يخلّ ذلك بالمنطلق المنهجي الأساس: الدراسة عبر المقارنة.

لم يكن المنطلق المنهجي السابق، مُجسَّدا في أسلوب المقارنة، يمضي دون أن يترك في نفوس المغاربة شعورا ما: “لا جديد تحت شمس المغرب”، منذ أن استقبل المشارقة “عَقْد” ابن عبد ربه بعبارتهم، التي غدت مأثورة من كثرة تداولها: “بضاعتنا رُدّت إلينا”. تفصح العبارة عن كيفية تلقّي المشارقة لآداب ما يسمى الغرب الإسلامي (على سبيل التعميم)، ووجهة نظرهم المُختزَلة فيه، على الرغم من أن كتاب “العقد” لم يجعل هذه الآداب موضوعه الأساس. كان توقُّع المُستقبِلين أن يحمل الكتاب “شخصية” المغاربة في الآداب، لا أن يستعيد ما حوته مُصنَّفات المشرق من آداب، في كتب التاريخ والسياسة والكلام والبلاغة. وبعكس سياقها، أضحت العبارة المذكورة على كل لسان، تعبيرا عن لا جديد في الآداب المغربية، مادام أصحابها قد استفرغوا جهودهم في إعادة إنتاج آداب المشارقة، في أشكاله وأنواعه، أساليبه وأغراضه.

لم يكن “الجديد” ليحصل إلا بمقدار، حتى داخل إطار المشرق نفسه، بل وحتى داخل الإقليم الواحد، أو الجزء منه. وبالنظر إلى ما وصلنا عن “الجاهليين”، سينتظر الشغف الأدبي عصورا طويلة، إلى أن يشرف العصر العباسي في الأخير، فيتمخض أدب العرب عن فنون وأساليب جديدة في الشعر، كما في النثر. هل كان هناك “جديد” مُطلق في الشعر الأموي، بالمقارنة مع الجاهلي مثلا؟ إن الجديد المغربي، إذا ما اخترنا الجواب بصيغة الاستنكار، لم يكن إلا بمقدار. وعلى الرغم من هذه البدهية، التي تتعالى على كل سجال ثقافي غير مُلمّ بشروطه التاريخية الموضوعية، فإن عبارة “البضاعة المردودة”، ما تزال آثارها “النفسية” قائمة في الأذهان، مُستديمة سوء الفهم الثقافي بين شطري الأمة، حتى وقت قريب. لم يكن سوء الفهم ذاك يخلو، أحيانا، من حدّة، في غير قليل من السجالات، ” كـ ” مثل ذاك الذي حصل بين العلامة عبد الله كنون والشاعر عبد المعطي حجازي.

في حوار مع الشاعر محمد بنيس، صدرت عن الأخير إشارة مُعبِّرة عن بعض ما نحن في سياقه: علال الفاسي، وهو يقيم بين المشارقة في مصر، لم يحصل أن زكّى نفسه شاعرا كبيرا. البحث عن تزكية الآخر (المشرقي حتى وقت قريب)، انزاح بأبصار المغاربة نحو المشرق (مصر أولا، لبنان ثانيا)، في سعي حثيث لـ “تسويق” ذواتهم الإبداعية، حتى قبل أن يتحقق لهم ذلك في بلدهم الأصلي، في أكثر من حالة مرصودة. وبالعودة إلى صاحب “الحداثة المعطوبة”، رأينا كيف استطاع محمد بنيس أن يُشكل جزءا من النقاش الثقافي المعاصر، بعد أن تأتّى له كسب “صداقة” كبار صُناع الحداثة الشعرية المتأخرة (أدونيس وأضرابه). أتصور أن المغاربة لم يفتَكّوا أنفسهم من هذا الإسار، إلا بعد أن صار الغرب الثقافي (بآدابه وفنونه) قِبلتهم الأثيرة.

الأمر السابق يكاد لا يستثني أحدا من المغاربة، باستثناء الذين نشأ تكوينهم باللغات الأجنبية في البداية، من قبيل محمد خير الدين، عبد الكبير الخطيبي، عبد اللطيف اللعبي، وقبلهم أحمد الصفريوي وإدريس الشرايبي (من ذوي الثقافة الفرنسية تحديدا). وتحسن الإشارة إلى أن الأدباء المذكورين وغيرهم، في أزمنة مختلفة من عصرنا الحديث، كان لهم الفضل في تحقيق “الإبدال الثقافي” المطلوب على مستوى المرجعية، دون إغفال دعم الجامعة المغربية على هذا الصعيد أيضا. وأتصور أن هؤلاء الأدباء، بوعي منهم أو حتى بغير وعي، نجحوا في تخليص الأدب المغربي مما يمكن تسميته “الحداثة بالتقليد المُضاعف”. قبل أن يحققوا اتصالهم الثقافي المباشر بالغرب، ظل المغاربة، مدة من الزمن، يتسقّطون ما كان يتخلّف في آداب المشارقة من آثار الآداب الأجنبية. فبحكم الاحتكاك المشرقي المُبكر بالثقافة الأوروبية، الذي أسّست لبوادره حملة نابليون، لم يكن للأدب العربي إلا أن يقضي مرحلة مُحددة (سميت نهضة أو بعثا)، ليتسنى له التوسع في الانفتاح على اتجاهات الغرب الأدبية.

الشاعر المغربي (الوجداني) عبد القادر حسن، يمكن اعتباره نموذجا للحداثة بالتقليد المُضاعف. غير أن انقضاء مرحلة معينة، تحت تأثير السياق الثقافي الأوروبي الجامع (بفعل الاستعمار)، سيجد الأدباء العرب أنفسهم، أي المتطلعين إلى جديد الآداب الأجنبية واتجاهاتها، تحت ضغط الحداثة الأوروبية، في الفكر والأدب والفن. الإبدال الجوهري الحاصل، خلال هذه اللحظة، كان هائلا: بدل الزمن العربي (الارتدادي)، انتصر الزمن الأوروبي (التقدميّ). الغرب، بالصفة الجغرافية، صار أكثر تجسيدا لحداثة الأزمنة المتأخرة.

–     اليوم، أين هو الشاعر محمد بنيس؟

– إنه في أكثر من لغة غربية : فرنسية، إسبانية، إيطالية وإنجليزية. لا يُشكل بنيس إلا نموذجا لهذا الانتقال، الذي أُريدَ له أن يُحقِّق نقلته: من الشرق إلى الغرب. هكذا، تبدو العلاقة الثقافية، في تحولاتها الحاصلة، ولو على مستوى السطح الطافي. ومن السؤال عن بنيس، يمكن السؤال عن موقع الشرق في الإبداع العالمي اليوم. أين هو؟ للأسف، يكاد إبداع المشارقة يتوارى، بفعل واقع البؤس والحروب والطائفية. إن كان هناك من إبداع، فهو لأفراد معدودين، مقيمين بدول الغرب في جزء منهم. ما من شك في أن الموضوع يحتاج إلى دراسة مُستفيضة، مُعزَّزة بالمعطيات والجرود الميدانية.

     مشرق “يُبدع”، مغرب “يَقرأ

إن توزيع الأدوار بين مشرق يُبدع (شعرا ونثرا)، ومغرب يتأمّل (فلسفة ونقدا)، كان من شأنه أن يُخلِّف عبارة “البضاعة المردودة” في مكان ما من الذاكرة. وحتى لو أن التوزيع، ظل يحتاج إلى مقاربة علمية، تتجاوز إطار الملاحظات الانطباعية العامة، إلا أن أفضل ما يمكن ترتيبه من هذه الناحية: الإبداع والفنون والفكر، في بروزها أو انحطاطها، حصيلة شروط تاريخية موضوعية.

في سياق العلاقة المشرقية- المغربية، الموصوفة في خطوطها العريضة، يجب التنبيه إلى بقاء معظم نصوص الأدب المغربي “رهن الرفوف”، في الخزانات العامة والمَلَكيَّة والخاصة. وإن ظل المغاربة يعيبون على المشارقة محدودية انفتاحهم على ثقافتهم وفنونهم، إلى عهد قريب، فإن تلك المحدودية تكاد تنصرف إلى المغاربة أنفسهم، في علاقتهم بمنتجاتهم الأدبية أيضا. ولولا ما صنّفه عبد الله كنون وابن تاويت وغلاب والجراري، في حدود معينة من العصر الحديث، لأضحت تلك الآداب في حكم المجهول، من قِبل غالبية المُتلقّين المغاربة. ومع ذلك المجهود المبذول، الذي أخرج لنا ابن حبوس وأبا العباس الجراوي وأبا الربيع سليمان، وغيرهم في نطاق محدود، فإن السؤال يظل مطروحا على النحو التالي: كيف يمكن الحديث عن أدب مغربي، في حين ما يزال مُعظمه بعيدا عن مُتناول الباحثين المتخصصين، فبالأحرى القراء العاديين؟

وفي الزمن المعاصر، أتصور أن المشارقة لا يعرفون عن المغاربة إلا نماذج محددة بالاسم، على الرغم من الرسوخ الإبداعي الواسع المُسجّل للعديد منهم مغربيا، وحتى عالميا. ولولا الجوائز الثقافية والأدبية المنتشرة، المُعلنة في أكثر من بلد عربي، بموازاة مع انتشار وسائل التواصل الرقمية، لما عُرف لحمّيش والأشعري وآخرين كبير ذكر. كان الانفتاح المشرقي المحدود على المغرب، إلى وقت قريب، لا يتعدى إطار العلاقات الشخصية: العودة إلى بنيس وعلاقته بأدونيس مُفيدة من هذه الناحية أيضا. والآن، يبدو أن مسار هذه العلاقات الشخصية آخذ في التوسّع، بالنسبة للأدباء المغاربة من الشباب، مع التوسع في الاتجاه شرقا وغربا.

     الشعراء المغاربة وإمارة الشعر

“إمارة الشعر”، التي أوثر بها أحمد شوقي، ظلت مطروحة في المغرب، ولو بشكل مضمر. وحتى مشرقيا، وبعد وفاة شوقي، سنجد محمد بن إبراهيم (شاعر الحمراء) يخوض في موضوع “الإمارة”، بالميل إلى اقتراح العراقي جميل صدقي الزهاوي لها. وحين رحل الأخير، بادر شاعرنا إلى رثائه بقصيدة، نختار منها الأبيات التالية (بدون ترتيب):

بنعيِ أمير الشعرِ قد واصلوا النعبا /// إلى أنْ أمير الشعر حقا قضى النحبا

جميلَ الزهاوي ما تركت لشاعــــر /// دراكَ علـى بُعـد فأفْعـمتـَه حبـــّــــــا

وكم شاعر قد جاءني بقريضــــــه /// فأمعنــتُ فيـه ثـم قـلتُ: تبــــــّـــــا

فكرة “إمارة الشعر”، ظلت مطروحة على نحو ما، ولو بشكل ضمني. وفي علاقة المراكشي ببعض نظرائه من شعراء المغرب، وجدناه يثير إمارة الشعر أكثر من مرة في شعره، ومن ذلك في قصيدته التي بعنوان ” في محمد غريط”:

شعراءُ مغربنا وأنت إمامُهم /// قد بايـعتكَ أميــرها المنصــورا

وأتاكَ جندُ القول يقسمُ إنــه /// لك لا يزول مدى الزمان نصيرا

وبخلاف غريط، لا يخاطب ابن ابراهيم علال الفاسي إلا بصفته شاعر فاس:

أشاعر فاس دون سابق رؤية /// عليك سلام الله من شاعر الحمرا

السؤال، بعد ذلك، هو: هل كانت لشاعر الحمراء رغبة دفينة في “ادِّعاء” إمارة الشعر لنفسه بالمغرب؟ ألم يكن في إثارتها من قِبله، في مواضع معينة، إيمان بفكرتها؟ أو لم يكن ادعاؤها للشاعر غريط، مثلا، مجرد “أسلوب”، لتحويل الاهتمام إلى شخصه بطريقة غير مباشرة؟

بالمقارنة مع الحضور الشعري (الباهت) للفاسي بمصر، سينجح شاعر الحمراء في حيازة قدر أكبر من التقدير، لدى أدباء مصر ونُقّادها ورجالاتها. ومثلما كان يرى الدكتور قاسم الحسيني، بالعودة إلى كتابه “شاعر الحمراء بين المألوف اليومي والمألوف الشعري”، فإن الشاعر لم يكن “يجد صعوبة للتربُّع في قلوب الآخرين في المشرق والمغرب على السواء”. إقامته القصيرة بمصر، بعد أداء مناسك الحج، ستُمكِّنه من لقاء أرقى رجالات مصر، في الأدب والسياسة والفن على حد سواء. حياة ابن ابراهيم، إضافة إلى فلسفة وجوده، سيجعلانه قريبا من شعراء عصره، ومنهم عبد العزيز البشري، حافظ إبراهيم، إمام العبد، كامل الشناوي وعبد الحميد الذيب، على حد تعبير أحمد شوقي بينبين. والواقع أن زيارة المراكشي إلى مصر، إضافة إلى ما أنتجته من لقاءات أدبية مع كبار الأدباء والنقاد والفنانين، أضحى من ثمارها قصائد ومُساجلات شعرية قيِّمة، حتى بعد عودة صاحبنا إلى المغرب. وعلى سبيل التمثيل، لا الحصر كما يقال، يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى قصيدته “حنين مصر”:

أحنُّ إلى مصر وما أنا من مصـرِ/// ولكنّ طـــير القلب أعــرفُ بالــوكرِ

فلولا هوى مصر وحبّي لأهلهــا /// لما كنتُ في قُطر وأصبحت في قُطرِ

بلاد كما شاءت سعادة أهلــهــــا /// وأرض تجرّ الذيل في الحُللِ الخضر

بلاد بها الإسلام يرفع رأســـــــه /// وقد عُقدت من فوقه رايةُ النصــــِر

ولو قلتُ حبّي موطني فوق حُبِّها /// لكنتُ أخـا جهْـر يُخالفــه سِـــــرّي

إن طريقة استقبال المصريين للمراكشي، من قِبَل أكثر واحد من الأدباء والنقاد والمفكرين والفنانين، تُبيِّن طبيعة التلقي الحسن للشاعر ودرجته. ولولا ما وجده أولئك من “نبوغ” شعري في صاحبنا، إضافة إلى خِفّة دمه، لما كان لطه حسين والمازني والعقاد رغبة في الاتصال به والتواصل معه. والواقع أن في ما نظمه شاعر الحمراء، خلال حياته غير الطويلة، ما يشي بسيرورة إبداعية حافلة، ساهمت في إنتاجها حياته الضاجة بالأخبار والعلاقات والأحداث. غير أن الحديث عن غياب شاعر مغربي، يحظى بإجماع المغاربة والمشارقة، على نحو ما تمّ لأحمد شوقي، بتوليته إمارة الشعر العربي، أمر يخرج عن إطار البحث والدراسة الأدبيين بحصر المعنى.

إن نسبية التلقي الجمالي، بارتباطها مع عناصر الثقافة والذوق والمزاج من جهة، وباحتكامها إلى وسائل التوسُّط ومؤسساته من جهة أخرى، تجعل الحسم في مسألة “الإجماع” غير ذات مضمون (علمي). ما الذي أسفرت عنه “الموازنات” و”الوساطات” و”الخصومات”، خلال مرحلة مهمة من تاريخنا الأدبي، في نهاية المطاف؟ الموضوع يخرج، باعتقادي، عن مجال التلقي الأدبي، بوصفه تلقيا فرديا (مُفردا) من جهة، وانطباعيا (نسبيا) من جهة ثانية. وفي سياق هذا، نستطيع أن نفهم كيف صارت للـ”شهرة” الأدبية وسائطها ومؤسساتها ودواليبها، القادرة على تكريس هذا الشاعر دون الآخر.

أضحى مُتعذّرا ترجمة الشهرة ترجمة علمية، بالاحتكام إلى معايير الإبداع دون غيرها، حتى وإن تعالت هذه المعايير على التاريخ واشتراطاته (ليست هناك معايير جمالية ثابتة ومطلقة). وبالعودة إلى التاريخ الأدبي، نستطيع أن نفتح أعيننا على نصوص، لم يُقدر لها تكريس قيمها الجمالية، إلا بعد أن ظلت عصورا طيّ الخمول والإهمال: هكذا، كان حال النصوص التي تتقدم زمنها (مثل إعادة تلقي النصوص الصوفية، من وجهة نظر أدبية، على أيدي شعراء الحداثة الأخيرة).

    محمد بن ابراهيم، شاعر المغرب

يبدو القول بعدم وجود شاعر مغربي، في العصر الحديث، مثلا، يضاهي شوقي أو الرصافي أو الشابي أو مُفدي، هو تقدير يخرج بنا عن مجال الدراسة الأدبية إلى السوسيولوجيا والتاريخ وما شابه (سوسيولوجيا الأدب والثقافة والقراءة). ومع ذلك، وأخذا بعين الاعتبار مختلف التّحوُّطات، بإمكاننا العودة إلى شاعر الحمراء، الذي ملأ دنيا الناس، خلال مسيرته الإبداعية، شعرا وطرائف. وعلى الرغم من كل ما أثير حول شعر الرجل، وسرديات حياته القصيرة، إلا أن ذلك لم يقترب بنا من “حقيقة” ما نظمه بإبداع وتلقائية مُدهشيْن.

حين تهيأ لأحمد شوقي بينبين عرض أسماء، ممن اهتموا بشعر المراكشي، لم يكد يتجاوز ستة منها. هل هي ثقافة مغربية متأصلة، تحكمها المبالغة في الاهتمام بآداب الآخر (قريبا كان أم بعيدا)؟ هل الأمر متعلق بطبيعة مواقف الرجل، في لحظة حاسمة من تاريخ المغرب الحديث؟ هل للموضوع، برمّته، صلة بالطبيعة الشفهية للمجتمع المغربي، التي أولت العناية بشخص ابن ابراهيم وطرائفه، على حساب ما نظمه من شعر؟ أم هل هي حياته العابثة، التي استدعته، في كثير من سياقاتها، للنظم في الشراب ومجالسه، في الغلمان والتغزل بمفاتنهم؟ على كل حال، الوضع لم يتغير، إلى اليوم، بخصوص التعاطي مع شعر المراكشي من جهة، وباقي شعراء المغرب وأدبائه من جهة ثانية.

لم “يعش” شاعر مغربي الشعر مثلما عاشه شاعر الحمراء. ففي مقابل أقران زمانه، الذين نظموا الشعر على هامش وظائفهم الرسمية (قضاة، فقهاء، عدول، إلخ)، لم يُعرف لمحمد بن ابراهيم نشاط آخر شَغَلَه غير الشعر. في مقدمة ديوانه “روض الزيتون”، نقرأ لـ “بينبين” رأيا نقله عن أحمد الشرقاوي إقبال، فِي ما يخص مُعاكسة شاعرنا رغبة أبيه في أن يكون فقيها ” فتهتّك الفتى بدل أن يتنسّك، وجاءنا شاعر بديلا عن فقيه”. وعلى الرغم من شيوع فكرة تأثير الثقافة الفقهية في شعر المغاربة، إلا أن الجنوح الشعري الصميم يكاد يعدل بابن ابراهيم عن أي شيء آخر. حتى وهو يتصنّع الوقوف موقف الفقيه (المُفتي)، لا نجده إلا مُزريا بالفقيه، عبر تعمّد اللجوء إلى السخرية. في الأبيات التالية، ما يكشف عن حقيقة علاقة الشاعر بالفقيه في شخص المراكشي:

قالوا: تزوّج فلان وهْو فـــي /// (عصمة) غيره الذي تَعشَّقـــــهْ

قلت: يطلِّقه، قالوا: ليس يســ /// خو به، قلت: حلُّ هذي الموبقهْ

الكفُّ عن حَلْق لحيته شهـــــ /// رينِ وأنا الضّامنُ أن يُطلِّقـــــهْ

الأبيات الثلاثة تترجم موقفا، فيه خروج على التقاليد من وجهة نظر المجتمع المحافظ، الذي كان يعيش فيه الشاعر. وحتى إن وقف الأخير موقف الفقيه المُفتي، إلا أن الموقف الحقيقي كان الإزراء بالفقيه، وفي المقابل الإعلاء من شأن الشاعر. ابن ابراهيم يفتي في أمر محسوم فقهيا، على سبيل الإمعان في السخرية، مع ما قد يعنيه ذلك من إقرار بواقع “العلاقات المثلية”. هل كان يحتاج الرجل العاشق للرجل المعشوق إلى فتوى أصلا؟

لقد انتصر ابن ابراهيم للشاعر فيه على حساب العالم الفقيه. وعلى الرغم من الأهلية العلمية لشاعرنا، التي أجازه فيها كبار علماء عصره، مثل أبي شعيب الدكالي والعباس بن إبراهيم المراكشي، إلا أن مركز اهتمام شاعر الحمراء لم يتزحزح عن الشعر. وأكثر من ذلك، كان هذا الشعر أسلوب حياة بالنسبة للمراكشي، من منظور استغراق معظم وقته “سلسلة جلسات من السهر والسمر، وحلقات من لقاءات متواصلة مع الأحباب والخلان، يتبادلون خلالها النكتة البارعة، والمثل الشارد، والبيت المأثور، ويتجاذبون فيها الأحاديث الرائعة، والألغاز المُعبرة، وقد تتمخض عن مساجلات للشعراء غالبا ما يكون ابن ابراهيم الموحي بها، أو الداعي إليها” (عن مقدمة بينبين للديوان).

    ابن ابراهيم، موضوع شعر، أخبار وطرائف

إذا كان الشعر، بالنسبة إلى صاحبنا، وسيلة كسب مادي، وأسلوب حياة، وفلسفة وجود، فلم يكن يخلو أن يكون، من جهة أخرى، “رفيقا”، يرصد عبره ما تعجّ به حياته الصاخبة، التي ظل الليل فضاءها الأثير. ونستطيع القول إن ما من شاعر مغربي استطاع، إلى حدود علمي، أن يعكس شعرُه حياتَه مثل المراكشي. وفِي ما يخص شاعرا، كان هذا حاله وديدنه مع الشعر، فليس من الغريب أن تصل لديه المقدرة الشعرية حدا، بلغ فيه شأوا من التعبير عن مختلف تفاصيل حياته. ويمكن الزعم بأن الشعر ظل يجري على لسانه ارتجالا، ما جعل طائفة منه تضيع خلال جلسات الشّراب والسّمر. وإضافة إلى ما ضاع، كانت هناك طائفة أخرى لا تتعدى البيت أو البيتين، ومنها ما نقص منها شطر أو شطران أو أكثر.

بارتباط مع ما سبق، ونتيجة لطبيعة التفاعل الشعري المباشر مع الحياة، أضحى المراكشي، خلال حياته القصيرة، موضوع أخبار وطرائف، كان المراكشيون يشغفون بتناقلها وتداولها فِي ما بينهم. فهذا عميد الأدب العربي طه حسين، في غمرة زيارته للمغرب سنة 1959، يسأل عن المكان الذي كان يجلس فيه المراكشي، أي “مقهى المصرف”. من جهة أخرى، يبدو أن شعرا موضوعه حياة صاحبه ذاتها، من شأنه أن ينحطّ إلى مجرد “كلام” نثري في مرات عديدة. وقد قدّم الشاعر توصيفا لشعره، في سياق ملاحظتنا الأخيرة، في هذا البيت:

هاكَ شعرا من السهولة يُتلى /// وهْو نثر وحـبذا النثر نثـرا

ومن ذلك، أيضا، هذا البيتان الهجائيان في خليفة الباشا الكلاوي:

إن للبيّـاز ذكـــرا /// يجلب الخزي إليهِ

كلما أقبــــل قلنـا /// لعنة الله عليـــــــهِ

أو هذين في وصف رجل ثقيل الدم:

أتى مُحلِّلُ دم (مفضـــــلا) /// فشكّه بالمحقن المصّــاص

فانكسر المحقنُ في عروقهِ /// فدمه أثقلُ من رصـــاصِ

وفي بعض الأحيان، تبدأ القصيدة قوية، إلا أنها سرعان ما تَهِن وتضعف، في وسطها أو نهايتها. والأمر في ذلك لا يرجع إلى قلة موهبة من الشاعر، وإنما نتيجة لكثرة تعاطيه نظم الشعر في المجالس بين الأصحاب والخلاّن. وأكثر من ذلك، ضاعت قصائد عديدة، قالها الشاعر ثملا، ثم أصبح لا يذكرها صاحيا. ولولا وجود أصدقاء مجالس شربه، ومنهم الفقيه بينبين (والد جامع الديوان)، لما كان لكثير مما ضمّه “روض الزيتون” أي وجود.

وإن أخلص ابن ابراهيم للشاعر فيه، حتى ملأ عليه وقته وشغله، فإن الوظيفة من نظمه لم تكن لتتعدى مُرافقة ليالي الأنس والطرب والشراب. وباستثناء مدحياته وعرشياته، بالدرجة الأولى، كدنا نجد شاعرنا منصرفا إلى شؤونه اليومية، من مساجلات، وإخوانيات، وألعاب، وألغاز، ومعارضات، وفكاهيات. وإن أحطنا شعر ابن ابراهيم بنظرة شاملة، ألفيناه يخوض في مختلف الأغراض، وبشتى الأشكال والأساليب. وقد ظل الشاعر في كل ذلك، لا يُقارن إلا من قِبَل شعراء النهضة الحديثة، وفي طليعتهم الشاعر حافظ إبراهيم. يدل على هذه المرتبة، الاستقبالات التي حظي بها الشاعر في أكثر من لقاء، بالمغرب كما بالمشرق. هكذا، اكتملت نهضة الشعر العربي، بشقيها المشرقي والمغربي، بشكل جعل تَرسُّم أفق جديد للشعر العربي أمرا ممكنا، فِي ما سيأتى من مدارس واتجاهات في مختلف أقطار الوطن العربي.

  • ابن ابراهيم بين المتنبي والباشا الكلاوي

تميز عصر ابن ابراهيم بزخمه، على أكثر من صعيد، أدبيا وفنيا وسياسيا. وباعتبار كون مصر بؤرة هذا الزخم، فقد مكّنت زيارتُها الشاعر من الإفادة من اللقاء برواد الأدب والفن والثقافة. ولقد استمر الأمر على نحو تصاعدي، حتى بعد العودة إلى موطنه الأصلي. ذلك أن المراكشي ظل من أوائل المُستقبِلين للوفود المصرية في المغرب، عبر نظم قصائد الترحيب والإطراء (اللقاء بالممثلة فاطمة رشدي، وبفرقة يوسف وهبي المسرحية، إلخ). أما مغربيا، فقد أدى به الاتصال بالباشا الكلاوي إلى الاستفادة من كرمه، إلى درجة بات يجسد فيها علاقة المتنبي بسيف الدولة. وقد نتج عن هذا الاتصال، نظم قصائد ذات جودة فنية عالية في ممدوحه، إلى جانب أولاده (محمد، ابراهيم، عبد الصادق) وباقي رجالات الحماية، من “القُيّاد” والباشوات والخُلفان (الكندافي، العيادي، إلخ) . ومن القصائد ذات المقدمة القوية، والجرس الإيقاعي العالي، يمكن الاستشهاد بقصيدته التي قالها في الكلاوي، أثناء عودته من فرنسا:

بعودتك الحمراءُ تمّ لها القصدُ /// فذي عودةٌ كالشمس يقدُمها السّعدُ

ويبلغ ارتباط الشاعر بالباشا الكلاوي حدّا، وصف فيه نفسه بالعبد تذللا أمام مولاه. يمكن قراءة ذلك في قصيدته ” بين يديك”، التي جاءت مُنتظمة وفق غرض الاعتذار:

عبدٌ ببابك خدُّه قد عفّــــــــــرا /// حاشاكَ تسمع فيه قولا مفتـرى

عبدٌ علمتَ وفاءه وصفــــــاءه /// حاشا لذاكَ الصفوِ أن يتغيّـــــرا

عبدٌ تكون من صنيعك شخصُهُ /// حاشاهُ يجحدُ صُنعكم أو يُنكـــرا

وقد قاده وفاؤه للباشا الكلاوي، ومن خلفه للحماية الفرنسية، إلى نظم قصيدة في “بنعرفة” (السلطان غير الشرعي)، بعد نفي السلطان محمد الخامس خارج المغرب (غير موجودة في ديوانه). من ذلك، نقرأ الأبيات التالية:

محمد بن عرفـــــه /// نصر يوم عرفــــــه

في ذاك سرٌّ ظاهــــر /// يعرفهُ من عرفــــه

عصره بالعيد ابتدى /// والعيدُ ربٌّ شرفــــه

وبموازاة مع كل هذه “السقطات”، في تقدير الموقف السياسي السليم، فإن لشاعر الحمراء قصائد (ومنها عرشيات) نُظمت في مدح السلطان يوسف والسلطان محمد الخامس. في “آهات شاعر”، نسجل بتقدير فنيّ ما مدح به المراكشي محمد الخامس، في أثناء زيارته لمراكش سنة 1949:

تأخرتُ عن صوغ القريض له قصدا /// لكي يمدحوا جمعا وأمدحه فردا

فحبي له وحدي يعادلُ حبهـــــــــــمْ /// جميعا وشعري فاق شعرهم عدّا

بلى كل فرد لا يرى غير مـــــــا أرى /// فليس يرى في حبّ مالكه نِــــدا

هل كان المراكشي شاعرا تكسبيا، يمدح من يمنحه الأعطيات المادية. هذا ما يترجح، إلى حد كبير، في علاقة الشاعر بالباشا الكلاوي. ولعل ذلك هو ما جعل دارسا للشعر، مثل إبراهيم السولامي، يحمل على صاحبنا في كتابه المخصص للـ “الشعر الوطني”. وعلى الرغم من اختصاصه به، اختصاص المتنبي بسيف الدولة، إلا أن الباشا الكلاوي ظل يخشى لسان شاعرنا أكثر. حادثة سجن الشاعر، بعد غاب الباشا في فرنسا، جعلت الأخير يُعجِّل بإطلاق سراحه، مُخاطبا من حوله: ” لقد فتحتم علي بابا يصعب عليّ إغلاقه…” (شاعر الحمراء والغربال، الحاج عبد العزيز الأزموري).

من جهة أخرى، لا ينبغي أن تنسينا مدحياته للكلاوي قصائد ابن ابراهيم الأخرى، التي كان مُنسجما فيها مع مواقف الحركة الوطنية، في ثورتهم على الاستعمار والإقطاع والخونة (الباشا ابن البغدادي الذي كان يجلد الوطنيين). ففي قصيدته “الدمعة الخالدة”، يطالعنا الشاعر بحزنه على أبناء وطنه من فاس:

أسالَ من الأجفان عن صدره نهرا /// ليطفئ ما بالقلب مُشتعلا جمرا

خارج الإطار الوطني، نجد الشاعر يتفاعل مع العديد من الأحداث العربية، وحتى العالمية. ومن ذلك، ما قاله عن “تهويد فلسطين”:

عهدي ببيت القدس وهْو مقدس /// والدين دين والبراق بـــــراقُ

وأهمّ ما للمسلمين شعائـــــــــر /// من دونها الأرواحُ والأعنـــاقُ

أو ما قاله عن استشهاد الزعيم الليبي عمر المختار:

كأس الخطوب بذا العدوّ دهـــاقُ /// والدين قلبه واجف خفــاقُ

وجب الجهادُ بني بلادي فانهضوا /// اليوم يعذُبُ للحِمام مــذاقُ

أو عن “بلفور”:

البشرُ بشرٌ والسرور سرورُ /// بالأمس مات عدونا بلفــــورُ

يا لعنة الله اسكني في قبــــره /// فالريحُ رجسٌ والفَالُ فجورُ

أو عن هتلر:

ليس في الناس من مصاب عظيم /// كمصاب الفتى بقلة عقلـــهْ

سوف يحظى هتليرُ بالذلّ يومــــا /// مثلما فاز موسوليني بعزلهْ

لقد تفاعل المراكشي مع قضايا عصره، سواء أكانت وطنية أم قومية أم عالمية. ويمكن اعتبار شعره، من هذه الناحية، وثائق تاريخية، ظلت تعكس أهم الأحداث والقضايا التي كانت تمور بها بلاده والعالم، في تلك الفترة التاريخية من حياة العرب، والبشرية جمعاء.

    المتعة بدل السياسة

في كل القضايا والأحداث، التي خاض فيها الشاعر، كان كمن “يمشي” على أطراف كَمْ من “حبل”. فإضافة إلى الحماية، التي نظم في رجالاتها شعرا، لم يولّ بظهره عن مدح سلطاني المغرب: يوسف ومحمد الخامس. غير ذلك، نجد في شعره تفاعلا مع مطالب الحركة الوطنية، في أكثر من مناسبة ومن حدث. ولعل المراكشي كان يحس بخطورة تناقضاته السياسية، وبخاصة حين يكون مُلزما بمسايرة الكلاوي وسلطات الحماية في مواقفها. ولذلك، ألفيناه يخرج، على سبيل النجاة من تبعات ذلك، بموقفه السلبي من “السياسة” (بتصرف):

عذتُ بالله من خضم السياســهْ  /// فهْي بحر لا أستطيــعُ مراسـهْ

عذتُ بالله من يسوسُ ومن سا   /// سَ فإن الأسى سليلُ السياسهْ

وإذا أمعنتَ في كل ما جــــــــــا   /// ء بسيـنٍ ألفيــتَ فيـه تعاســــــهْ

فالأسى والسّقامُ والبؤس والخسْـ   /// ـرانُ بالسينِ كلها والخساســـهْ

إن من يطلبُ السياســـــة فــي الأرْ   /// ضِ كمن يستلذُّ طعم النجاسـهْ

وعلى الرغم من تناقضاته تلك، كان “القصر” هو المُبادر إلى إخراج ديوانه، في شخص الملك الحسن الثاني. وأتصور أنه لولا تلك المبادرة، لضاع جزء مهم من شعر المراكشي، الذي كان يتناقله أصدقاؤه شِفاها.

صَرَف المراكشي سنوات عمره، مُحَصِّلا للمتع المادية بمختلف أنواعها وألوانها. وأرى أن ولعه بالحياة اللاهية، هو الذي كان يدفعه دفعا إلى “التقرب” من أكثر من طرف، بغية استجلاب الأموال من جهة، وتوفير الحماية الشخصية من جهة أخرى. وفي كثير من قصائد الشاعر، يجد القارئ شغف المراكشي بالحياة، إلى درجة أنه لم يكن يُلقي بالا للمواضعات الاجتماعية المحافظة. فبموازاة مع نظمه في الخمر ومجالسه، لم يتردد ابن ابراهيم عن الخوض في موضوع الغزل بالمذكر. والملاحظ أن العديد من غزلياته جاءت مُوجَّهة، من حيث ضمير خطابها، إلى المذكر مباشرة. وإذ كان يتغزل باصدقائه، على سبيل التفكهة، مثل شعره في صديقه الهاشمي العيادي (بتصرف):

لا تعاتبني فلا عَتْبَ عـــليّْ /// خرج الأمرُ وعقلي من يـديّْ

ليس للنُّصحِ قَبول يُرتجـــى /// عنـد شيـخ هــام بصُــــــــبيّْ

سادتـــي فارقتــكم واستٌلبتْ /// بنواكمْ راحتي من راحـــتيّْ

صادني منكــم غريــر أغيــدٌ /// فيهِ ما يُشغلُ عن هندٍ وميّْ

فإن الأستاذ أحمد الشرقاوي إقبال (في كتاب “شاعر الحمراء في الغربال”) ذهب إلى أن شاعر الحمراء “عشق طائفة من الغلمان عشقا مُبرِّحا، وهام بمعظمهم هياما بلغ به حدّ السفاهة”. أكان ذلك أمرا حاصلا أم خيالا، من مُنطلق أنه لا يعدو كونه أسلوبا فنيا، فإن الحاج عبد العزيز الآزموري (مؤلف “شاعر الحمراء والغربال”) وجد أن “إقبال” لم يأت من أشعار الشاعر إلا بخمسة أبيات، في سياق الاستدلال على عشقه للغلمان. والأبيات المذكورة موجودة في “روض الزيتون”، تحت عنوان: إلى عروسة عريس (اللائطات):

عدوّة القـومِ بل عــــــــــــدُوّة اللهِ  /// أخــذتهِ لكِ ما للبيتِ من نــــــــاهِ

أخذتهِ حين أضحى الحسنُ مكتملا  /// فيه وطـــرَّ نباتا خـــدُّه الزاهــــي

قطعتِ منه رجـــــاء الطامعينَ بــه  /// من كل ذي شغف بحسنه الباهـي

يا للرفاق لما في الأمـر من خطـــر  /// حتْمـــــٌ تدارُكـــــه واللــه واللــهِ

زاحــمْننا هـــؤلاء اللائــطات فقـــدْ  /// أخـــذن كل جميل الوجـــهِ تيّـــاهِ

وإن سعى الآزموري إلى دفع شبهة عشق الغلمان عن المراكشي، إلا أنه سرعان ما استدرك على صاحب الغربال بقصيدة أخرى، يحسب أنها المسؤولة عما ذهب إليه “إقبال”. ومنذ البداية، يطالعنا البيتان الآتيان بكل وضوح وسفور:

في بِذلة النّوم قد تبدّى  /// مُزرقّـــــة يرتــدي وشاحـــا

فهل رأيتم جمال بـــدر  /// إنْ في ازرقاق السماء لاحــا

أما نحنُ، فيكفينا سوق هذين البيتين، اللذين يشفّان عن افتتان “مثلي” من الشاعر:

قالوا تــزوّجَ فُــــلان ولقـــــدْ /// عجبتُ من قولهمُ المُشتبهْ

فقلتُ من ترضى به من النِّسـا /// وهْوَ أحقُّ بالتزوُّجِ بـــــهْ

 

  • المراكشي شاعر المغرب الحديث

هل يمكن اعتبار محمد بن ابراهيم شاعر المغرب؟ بدون تردد، يمكن الزعم بكون المراكشي أحد شعراء المغرب الكبار. وقد عرضنا لبعض من مصادر قوة هذا الشاعر الفنية، المتأتية من أكثر من جهة: شخصية، إبداعية، تاريخية. ننتهي إلى هذا التقدير، مع العلم أن العديد من شعرائنا، ومن مختلف العصور، لم يتمّ الكشف عن نصوصهم، فبالأحرى نشرها والتعريف بها، ومن ثمّ تحقيقها ونقدها. وعلى الرغم من أن لشاعرنا أكثر من قصيدة ذات جودة عالية، إلا أن هذا الأمر لا يكفي لكي يتسيّد الشاعر، ولو في مستوى أقلّ، على أقرانه من الشعراء المُجايلين. ومثلما ترجم المراكشي المساهمة الشعرية المغربية، في أخريات ما يمكن تسميته عصر “النهضة الشعرية”، إلا أنه لم يستطع تبئير المجهود الشعري فِي ما أبدعه، بالنظر إلى وجود أكثر من “تناقض” في تجربته ككل (على الصعيد السياسي أساسا). وأتصور أن في هذا التناقض، تحديدا، ما جعل نظيريه في تونس والجزائر (الشابي ومفدي) “يغطيان” عليه شعريا، من منظور تفاعلهما مع قضاياهما الوطنية بدون تردد أو مواربة.

ومع ذلك، ماذا أبدع الشابي خارج قصيدته “إرادة الحياة”؟ وماذا أبدع مفدي خارج الالتزام بموضوع التحرر الوطنيّ؟ في بعض الأحيان، تبدو مثل هذه المقارنات/ المُفاضلات غير ذات معنى، من منطلق افتقادها إلى أساس المقارنة الموضوعي الأوحد. أما المراكشي، فأعتقد أنه في حاجة إلى قراءات جديدة لشعره، من زوايا نظر متعددة: جمالية، تاريخية، نفسية، إلخ. وفي سياق ذلك، ينبغي “تحرير” الشعر المغربي، في مختلف عصوره، من قبضة الإهمال والنسيان.