لماذا لا يقيم أتباع الديانة الزردشتية مراسم العزاء في إيران؟ (الحلقة الثانية)

بقلم: د. أحمد موسى*

 

يقول رجل الدين الزردشتي موضحًا هذا التقليد: نحن نعتقد أن جسم الإنسان أصابه الفناء لكن روحه لم تفن. فالروح تكمل مسارها وتلك الذرة النورانية تعود إلى أهورا مزدا. ويقول مردفًا “إنَّ الملابس البيضاء التي نرتديها رمز للطهر والنور. إننا نعتقد أنه لا ينبغي البحث عن الماضي في التراب لأن ما يدفن في التراب تأكله الديدان ويتحلل ويندثر. يجب الوقوف أمام النور ومناجاة الروح في الماضي. فالنور هي قبلة الزردشتيين؛ ننتصب قبالة الشمس والنار أو القمر لأن ماضينا متعلق بالنور”.

كلمة “بُرسة” مشتقة من جذر “برسش”، بمعنى السؤال، ومغزى ذلك البحث والسؤال عن معنى الحياة لدى الأحياء؛ ليس فقط معنى حياة الفانين بل معنى حياة الباقين أيضًا. أتباع الديانة الزرادشتية يهتمون عاليًا بذكرى الفناء. ففضلًا عن مراسم الدفن فإنهم يحيون أيضًا اليوم الثالث للوفاة وصباح الرابع واليوم العاشر ثم اليوم الثلاثين الذي يُعرف باسم “روزة”. ويتكرر إحياء يوم “روزة” لاثني عشر شهرًا متواليًا؛ ثم بعد ذلك يتم إحياؤه كل سنة على امتداد ثلاثين سنة. وبهذا الشأن يوضح رجل الدين الزردشتي (الموبد): “على هذا النحو يلتئم الأحياء الباقون وتتحرر دواخلهم، فمراسم برسة هي في الأساس موجهة للأحياء قبل أن تكون خاصة بالأموات”.

يكتب الموبد سهراب هنكامي عن “برسة”: هي في حد ذاتها نوع من القضاء يتم في حضرة العدل الآهورية (نسبة إلى أهورا مزدا إله الزردشتيين)… نحن أنفسنا الذين نحكم على الماضي. ففي مراسم برسه نستعرض في أذهاننا أسئلة كثيرة، من قبيل هل وجد في الماضي إنسان طيب؟ هل قدم يد العون للآخرين طوال حياته؟ وهل ترك أثرًا على مستوى ثقافته ودينه ينتفع به اللاحقون؟ أتذكر أن والديَّ كانا يقدمان النصح لي ويوصيانني ألا أتخلى عن مراسم برسة لأتقاسم مع الأحياء الهموم وأتشارك معهم الآلام، وأتأسى بالأشخاص الطيبين وأجعل من أعمالهم الحسنة قدوة لي”.

فضلًا عن ذلك فالزرادشيون يحيون، في كل سنة في مناسبتين اثنتين، مراسم “برسة” عامة (في 19 يونيو و14 فبراير). الأولى تكريمًا للقتلى الذي قضوا في الحرب الأسطورية التي جرت بين إيران ومملكة توران في عهد الملك الإيراني الأسطوري منوتشهر البيشدادي، الذي ينحدر من نسل أفريدون وذكر اسمه في كتاب الأبستاق، الكتاب الديني لزردشت. وكان في نهاية هذه الحرب أن قام آرش، صاحب القوس، واعتلى جبلا شاهقًا ورمى سهمًا حدد به حدود إيران مع توران. أما المراسم الثانية فتقام –وفقا لمعتقدات الزردشتيينء تكريمًا للقتلى الذي قتلوا في معركة نهاوند، وقضى فيها جمع غفير من الإيرانيين على يد المسلمين الفاتحين خلال القرن السابع للميلاد.

مراسم “برسة” العامة يحييها كل أتباع الديانة الزرادشتية في جميع أرجاء العالم ، وببحث بسيط في محرك البحث غوغل يمكن الحصول على صور لهذه المناسبة من إيران وألمانيا والهند وأمريكا. من الطقوس المرعية في هذه المناسبة وضع طاولة على مدخل الباب عليها وعاءان؛ بأحدهما حلوى مهروشة وبالآخر مزيج من القهوة والشاي، ويكون فوق الطاولة أيضًا كناش يضم أسماء الزردشتيين الذي توفوا في تلك السنة مرفقة بأسماء آبائهم ويوم وفاتهم. ويُحضر المشاركون معهم في هذه المراسم شجر البقس والعود وخشب الصَّندل ويضعون ذلك فوق السفرة.

من الأشياء اللافتة للانتباه في مراسم “برسة” وفي غيرها من المناسبات زي النساء. فغطاء الرأس هو طقس رائج في الكثير من الأديان. وبالنسبة للزردشتيات، وخاصة في الهند، فالتقليد عندهم يقضي بعقد الشعر وتغطية الرأس، وهو تقليد ينم عن رمزية كبيرة ترتبط بمبدأ الطهر. لكن وعلى عكس ما يروج إعلاميًا في إيران، فلا صلة لغطاء الرأس هذا بالحجاب الإجباري المفروض على النساء في ظل حكومة الجمهورية الإسلامية، لأن الحجاب لم يكن له وجود في تاريخ إيران، بالصورة التي هو عليها في العصر الحديث. فالزرادشتيون، منذ القدم، كانوا يغطون رؤوسهم، الرجال والنساء في ذلك سواء. وفي مراسم “برسة” يغطي الرجال رؤوسهم بقبعة بيضاء والنساء بوشاح أبيض، يرمز للنور والسرور والطهر. يعتقد الزردشتيون أن تقليد غطاء الرأس يرتبط باتصال الهالة النورانية الإنسانية الموجودة بداخل كل فرد مع ما يسمونه بـ”طاقة الكائنات”، ولا علاقة لذلك بجنس الفرد، وهي تصدق على كل الزردشتيين.

*أستاذ اللغة الفارسية والأدب المقارن، مترجم ومختص بالشؤون الإيرانية