*بقلم: سعيد بوعيطة
استقرت احتفالات ذكرى عاشوراء عند الكثير من دول العالم الاسلامي كاحتفال سنوي، ومنها بلدان شمال إفريقيا. فتبلورت في احتفال سنوي يختلط فيه الدين بالتاريخ والسياسة والعبادات المستمدة من احتفالات اليهود ومن مآثم الشيعة، وبعض العادات والطقوس والمعتقدات المستحدثة من مختلف الثقافات. حيث كان للحكام الفاطميين الأثر الكبير في نشر وتشجيع الاحتفال بذكرى عاشوراء في المغرب العربي، فأصبحت عادة راسخة لا يمكن الاستغناء عنها، حتى ضن العوام أنها من الدين. وقد حاول الموحدون والمرابطون اجتثاثها. لكن لما أعياهم ذلك، عملوا على إفراغها وإخلائها من الطابع الشيعي، من خلال استبدال مظاهر الحزن والبكاء والعويل واللطم، بمظاهر الفرح والسرور والتوسيع على الأهل والعيال والفقراء. وقد تميز المغرب كذلك بالاهتمام الشديد باحتفالات عاشوراء والتشبث بعاداتها ومظاهرها وتقاليدها، ونقلها من جيل إلى آخر. حتى اشتهرت طائفة من العادات في هذه الذكرى في مختلف مناطق المغرب القروية منها والحضرية. ونحن في هذا السياق، لا نحرم ولا نحلل شيئا، بقدر ما سنقف عند بعض الظواهر التي لها تأثير خطير على الإنسان، وخاصة الأطفال.
ثقافة البندير
تردد النساء والفتيات خلال ذكرى عاشوراء مجموعة من الأهازيج الشعبية المختلفة إلى حد التناقض والغموض وانعدام الوشائج المنطقية بين دلالاتها. وإذا تأملنا هذه الأهازيج وجدنها مزيجا من الاحتجاج على بعض المظاهر والسلوكات الاجتماعية (اخرجوا الحاجبات – هذا عيشور عاد جات – بابا عيشور ما علينا لحكام – عيد المولود كيحكموه الرجا)، وبعض الأدعية بالخير وإنجاب الولد (عويد فوق عويد .. الله يعطيك وليد)، أو بالشر على من لم يتفاعل بالإيجاب مع طقوس وعادات عاشوراء، ورفض تقديم حق بابا عيشور (درجة فوق درجة ..الله يعطيك بنية عرجاء). كما عمل الوعي الجمعي للجماهير على التشبث بهذه العادات والطقوس بطريقة فيها الكثير من الرمزية والايحاء والإشارة، فامتزجت بذلك عادات الحزن والبكاء بطقوس الفرح والحبور وبعض الجوانب الدينية (الصوم والصدقة والزكاة والتوسعة على الأهل والعيال والمساكين). ولو افترضنا جدلا أن احتفالية عاشوراء تندرج في إطار التراث الشعبي، فمن السلبي التركيز على ثقافة البندير والتعريجة التي أصبح الأطفال يمارسونها إلى حدود ساعات متأخرة من الليل، مصحوبة بالمفرقعات وإشعال النار في الإطارات المطاطية، بشكل يثير الفوضى والخطر على الأطفال بالدرجة الأولى.
ماء عاشوراء، من الغرق إلى الظمأ
يعد التراشق بالماء وإشعال النار، أكثر عادات عاشوراء انتشارا بين الناس. يبرز التراشق بالماء على وجه الخصوص والاهتمام به عموما بصورة كبيرة في هذا اليوم في الأحياء الشعبية للمدن، ومن خلال حرص الأسر في البوادي بشكل خاص على الاغتسال بالماء البارد باكرا ورش الأولاد والممتلكات والحقول بالماء لما له من بركة في ذلك اليوم (حسب اعتقادهم)، وقد وصلت الأمور ببعض الناس إلى الاعتقاد بوجوب رش الماء والتراشق والاغتسال به، وكل من لم يفعل ذلك أصابه الكسل والفتور طيلة عامه ذلك، وأن الممتلكات التي لم يلمسها الماء في ذلك اليوم، قد يصيبها التلف والبوار والهلاك في ذلك العام.
يعود الأصل في هذه العادة، إلى اليهود الذين كانوا يحتفلون بذكرى نجاة موسى وهارون عليهما السلام، ومعهما بنو اسرائيل من بطش فرعون وهامان وجنودهما، فكان الاحتفاء بالماء (البحر) لأنه أداة النجاة التي سخرها الله لنصرة الحق، وتقويض الباطل. كما أن هناك من يربط عادة التراشق بالماء، بتوزيع الشيعة للماء في هذا اليوم، تذكيرا لأنفسهم وغيرهم بعطش الحسين وآل البيت عليهم السلام، بسبب الحصار الذي تعرضوا له من قبل جيش يزيد وابن زياد وعمر بن سعد مدة ثلاثة أيام قبل قتل الحسين حسب روايات الشيعة.
وإذا كان فرعون وجنوده قد هلكوا غرقا من كثرة ماء البحر وأمواجه العاتية، فإن الإنسان اليوم، إذا بقي على تبذير الماء، فسيموت ظمأ إن لم يحافظ على هذه المادة الحيوية/ الماء ويتجاوز طقوس عاشوراء السلبية. فيستوي فرعون الذي مات غرفا لأن أمواج البحر العاتية قد حاصرته، وإنسان اليوم الذي سيموت ظمئا، لأن العطش سيحاصره كما حاصر الحسين عليه السلام وعائلته بأرض كربلاء. وإذا كان التراشق بالماء، يشكل خطرا على الجميع، فحق عاشوراء الذي تحول إلى نوع من التسول المباح على طول السنة، حتى أصبحنا نعاين تسول الأطفال في الشارع العام وفي المقاهي وباقي الفضاأت، أشد خطورة.
التسول المباح
مع حلول مناسبة عاشوراء، يتم رصد العديد من الممارسات التي تدخل في إطار التقاليد الاحتفالية المتوارثة، غير أن أغلبها ينتج ظواهر مجتمعية سلبية، كـ”حق عاشوراء” الذي أصبح منفذا لتسول القاصرين. لتتسع هذه الظاهرة بالأحياء الشعبية والشوارع العمومية. إذ يلجأ العديد من القاصرين إلى طلب “حق عاشوراء” بشكل مستمر. مما ينمي ظاهرة التسول ويشجع هاته الفئة على الارتماء في أحضان هذه الظاهرة السيئة. وحتى مع نهاية فترة مناسبة عاشوراء، تستمر هذه الظاهرة من خلال اكتساب هؤلاء القاصرين لثقافة التسول. وإذا ارتبطت هذه الظاهرة بالأساس بعوامل مجتمعية عدة، فإن ذلك يستوجب مواجهة ظاهرة التسول بشكل عام، والتسول المناسباتي (عاشوراء مثلا)، من خلال التوعوية والتحسيس الموجه بالأساس إلى عائلات الأطفال، سواء في البيوت (من خلال وسائل الإعلام)، أو في المدرسة. فهل نحن فعلا على وعي تام بخطورة ما نقود إليه هؤلاء الأطفال من خلال هذه الطقوس؟ قد يكون الجواب بنعم، لأن المظاهر الخطيرة لهذه الاحتفالية تمر أمام أعيننا ونحن على علم بها، وقد يكون الجواب بلا، لأن الأسواق الشعبية، تعج بمظاهر الازدحام لشراء مستلزمات هذه الطقوس، وتشجيع الأطفال على ممارستها. مما يؤشر على أننا نعيش ثقافة البندير التي تجعلنا عن هذه المخاطر غافلين. لأنه إذا كان رب البيت بالدف ضاربا، فشيمة أهل البيت كلهم الرقص.
*ناقد و مترجم