باريس: زكية لعروسي*
المواطنة في بلد الهجر هي سلوك قوامه احترام ما عند البلد المحتضن بعيدا عن التعصب والانغلاق، وان يكون هناك انسجام مع مبدأ المنفعة التي تعود بالخير على الجميع، وقد يكون هذا بإهداء اثمن ما ننجزعلما وفكرا.
وليكون هذا العطاء مكتسبا مشتركا بين البلد المحتضن والمهاجر يجب ان يقابل هذا بيد الشكر، وحكمة حتى تتفاعل العناصر وتتلاقح الافكار بما يفضي إلى روابط مشتىكة تلتقي عندها الثقافات وتتواصل دون قطيعة او نفي لاواصر الوطن الام. فالاصالة لا تنفي المعاصرة والبلد الحاضن لا يصهر البلد الام ولا يسلخ المهاجر من جلدته التي من لونها تربة وطنه الام.
في مثل اوضاع سياسية بفرنسا اقل ما يمكن القول عنها أنها منقوصة، و معوجة تومئ بالتقزيم والتصغير، لم اجد ما ابدا به إلا ماورد في كتاب الحنين للاوطان للجاحظ على لسان الحكماء : ” الحنين من رقة القلب، ورقة القلب من الرِّعاية، والرِّعاية من الرَّحمة، والرَّحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرَّشدة، وطهارة الرَّشدة من كرم المحتد.”
لا أريد أن افرض هنا فكرا. او رأيا من ثقافتنا العربية.، فكل الثقافات والحضارات كانت لها نتف من الحكم عن حب الاوطان الأم، والحنين إليها.. فلما المطالبة بالتنكر للأصل بدل الإشادة به؛
فكل حضارات الشرق والغرب دعت دون استثناء إلى حرمة البلد النبع التي هي من حرمة الوالدين؛ واعتبروا أن البلدان الأولى بالصبابة هي تلك التي رضعنا مالها وطعمها غذاءها.
ومن هنا فلا تناقض بين حب الوطن الام والوطن الذي اَكَنَّنا فناءَهُ، فلا خَيْرَ في إنسان في الهجر تَنكَّرَ لأصله ولوْنِ جلده وجِنانِ ارضه من شعوب الارض كلها عجمها وعربها، ومن ملوكها، وساداتها، ورعاياها.
فلقد كانت الثقافة البونانية. من الثقافات الأولى التي حكت عن حب الوطن الام واعتبرت انه من علامة الرُّشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توّاقة.
فها هو ذا بُقراط يندد بحب الوطن قائلا:” يُداوى كلُّ عليلٍ بعقاقير أرضه؛ فإنَّ الطبيعة تتطلَّع لهوائها، وتنزع إلى غذائها”
و جالينُوس يقول بدوره : “يتروّح العليل بنسيم أرضه، كما تنبت الحبة ببلِّ القطْر.” فنقول كل من رحل عن اوكاره يحن إلى تربة وشجرة اصله، فلكم حق الشاعر حين أنشد: وألْصِقْ أحشائي بيرد ترابها. وإن كان مخلوطا بسُمِّ الأساودِ.
فَمَنْ مِنَّا لَمْ يفخر بوطنه، فحبِّ الناس للوطن، وقناعتهم بالعطن لم ينحصر على ثقافة دون أخرى، فكل الامم تسعى جاهدة للحفاظ على ثقافاتها واستبقاء علاقة الأبنائها في ديار الهجر بوطنهم من خلال اعتماد السفارات وتشييد مراكز للثقافة. فقد وُجِدَ أن كان هذا منذ القدم ، فولدُ هارون، وآل داود مثلا كانوا متمسكين حسب الجاحظ بحب اوطانهم، إذ “لم يَمُتْ منهم ميِّت في إقليم بابل في أيِّ البُلدان مات، إلاَّ نبشوا قبره بعد حول، وحملت رمَّته إلى موضع يدعى الحصاصة بالشَّام فيودعُ هناك حولاً، فإذا حال الحول نُقلت إلى بيت المقدس.”
والمُثُُلُ التي يسوقها الجاحظ ضمن دوائر تقافة الأعراب في هذا المجال كثر. فحب الوطن عند العرب هو من سلوكاتهم ونسكهم.، ولا يحتاج لأقنعة ولا لتفسير أو تبريرات لأنين وحُمّى الوطن والحنين ليرابيعه، وقنافده، وحيَّاتِه.
فمن أصدق الشواهد في حب الوطن كما ورد عند الجاحظ ” ان يوسف- عليه السلام- لما ادركته الوفاة، أوصى أن تحمل رمته إلى موضع مقابر أبيه وجده يعقوب وإسحاق وإبراهيم- عليهم السلام-
وروي لنا أنَّ أهل مصر منعوا أولياء يوسف من حمله، فلمَّا بعث الله موسى عليه السلام وأهلك على يديه فرعون وغيره من الأمم، أمره أن يحمل رمَّته إلى تربة يعقوب بالشَّام، وقبره علمٌ بأرض بيت المقدس بقرية تسمَّى حسامي.
وكذلك يعقوب، مات بمصر فحملت رمّته إلى إيلياء، قرية بيت المقدس، وهناك قبر إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام.”
ِفعَجَبِي من أحزاب سياسية -وكأنِّي بهم يجهلون التاريخ وأعراف الاولين- تنبثق منها رؤى منافية لحب الاوطان الأم باعتبار هذا الاخير (حب الوطن الام) لا ينسجم مع المنطلقات الفكرية والوطنية للبلد الحاضِن.. مما يسيء إلى ثقافة بأكملها ويشوش على علاقاتها بالدول الاخرى، بل قد يؤدي هذا إلى تشكيل رؤية جديدة عن ثقافتها لا تتناغم مع منهج الانفتاح على الآخر، وبالتالي إغلاق قنوات الاتصال مع البلدان المجاورة.
*شاعرة مغربية